الكاتب : أنور بيجو

رحمه الله عمّي درغام كان يصرّ أن كلمة ( إنسـان ) ، اشتقاقاً ومعنىً ، آتية من ( نَسِـيَ ) وليـس من ( أنِسَ ) ، وكان يردد دائماً ، (الإنسان نسّى ) .

وبعيداً عن الإشتقاقات ، فما كان يقصده عمّي ، أن الإنسان حين يمرّ بتجربة مرّة ، أو يشاهد تجربة مرّة وقع فيها غيره ، وخاصة إذا كانت فيها مواجهة تجعل الموت وشيكاً ، فيسيطر عليـه نـوع من التفكير والســلوك الجـديد تماماً ، مفادهما النهائي ، جيـد وإلى أبعد الحـدود ، لكـن - يقول عمّي - هذه الحالة لا تستمر إلاّ لأيام معدودات ، وبعدها ( ينسى ) الإنسان معاني التجربة المرة ، بكل أبعادها وعمقها ، ويعود إلى سلوكه المطبوع عليه ، وكأن شيئاً لم يحدث ، فالإنسان جوهره النسيان .

من جهتي ، فإني أصدق مايقوله عمّي ، وقد اختبرته ، وهو مثبت بالتجربة العملية ، ولمرات كثيرة ، وهذا ربما يتيح لعمّي أن يسجل باسمه ( قانوناً ) ربما تفرّد بإعلانه ، ولا أدري إن كان هذا بحاجة لحماية ملكية ؟

لكن ما يخيفني في نظرية عمّي ، أن تنطبق على الشعوب .... ولأني كنت يافعاً ، حين كان يحدثني بهذه الشؤون والشجون ، لم يخطر لي أن أسأله ، إن كانت نظريته تصحّ على الشعوب وليس فقط على الإنسان الفرد !

وفي هذه الأيام المريرة صار لزاماً عليّ ، أن أستقصي بنفسي إن كانت نظرية عمّي يمكن تطبيقها على شعب أو مجتمع إنساني . أي هل يمكن العودة إلى حوادث التاريخ والتقصي إن كانت الشعوب ، بعد أن تقع بتجربة مريرة ، فيتغير شعورها وسلوكها ، وتأخذ بكل مكوناتها كوجود إنساني منظم ، أن تأخذ بمعان عميقة عن معنى الوجود الإنساني ، ومقاصده العليا ، ثم لا تلبث مع مرور أيام معدودات أن تنسى ، وتعود دون أية فائدة مما انتابها في تلك التجربة المرّة ؟

في هزيمة 1967 كنت يافعاً ، وحين كان جنودنا يذوقون الويل ، وربما من التعليقات المرّة حينها ، أن بعض جنودنا لم يتوقفوا حتى دير الزور أو أبعد ، وفي نفس الحين كانت إذاعتنا السورية تبث أغنية : ( عبيلي الجعبة خرطوش ، وناولني هالباروده ، بيكلفني خمس قروش ، البيقرب صوب حدودي ) ، ولم نشأ في ذلك الحين أن نسميها هزيمة مرة ، بل ( نكسة ) ، وقرأت فيما بعد ، عن الأثر الخطير الذي تركته هذه ( النكسة ) في وجدان كل شرائح الشعب ، وخاصة مثقفيه ، الإحباط .. الضياع ... والأهم فقدان الثقة بالنفس .

خلال السنوات الستّ التي عشتها بعد ذلك ، كان يتضح لي شيئاً فشيئاً ، الأثر السيئ لهذه الهزيمة على سلوك الشعب السوري ، إلى أن جاء بعد ظهر السادس من تشرين الأول 1973 ، وجاء البيان الأول للحرب ، وقال البيان الأول أن عدد الطائرات التي أسقطها لنا العدو هو ثلاثة عشر طائرة بينما أسقطنا له سبع طائرات !!! ذُهل الشعب السوري من مصداقية إذاعتنا ، استنفر الشعب السوري انقلب ببيان واحد إلى شعب آخر ، سلوكاً ، واحتراماً للنظام ، ولإشارة المرور ، وللتعاطي مع أجهزة الدولة ، يحرس المنشآت العامة والسدود ، لو أتيح له ، يومها ، ولسبب ما ، أن يعبئ من البنزين المرصود للجيش ، كان يرفض ،، بل لم يبق أحد لم يتبرع للجيش دون طلب ..... وكان أهل الشام ، الذين اليوم لا يغادرون منازلهم ، بدل أن ينزلوا إلى الملاجئ ، يصعدون إلى أسطح المباني ليتفرجوا على المعارك الجوية .... شعبٌ ، خلال ساعات صار شعباً آخر ... إنها ( اللحظة الوطنية ) !!
حين خروج جيشنا من لبنان ، أقام الشعب خيمات الوطن ، وصار شعباً آخر !! وحّد يومها تعدد مواقف شرائح الشعب من النظام ، الموقف من السيد وليد جنبلاط ، والسبب ليس فقط تغيير الموقف السياسي للسيد وليد جنبلاط ، ليس هذا فقط أبداً ، بل تطاوله على رئيس الجمهورية العربية السورية !! وأسميته يومها ( شمشون الأقرع ) ، وها أنا أعتذر له اليوم ، لأنه زار دمشق من يومين ، ومع ما حملته هذه الزيارة من دلالة .

لا بد هنا أن نذكر المكافآت التي كان ينالها الشعب السوري ، بعد كل ( لحظة وطنية ) ، فمثلا ، حين كانت خيمات الوطن مازالت قائمة على أعمدتها ، لا ندري من خرج على الشعب بمكافأة مقدارها غلاء 55% لمادة الاسمنت .

نحن دولة غريبة عجيبة ، أقصد الشعب والسلطة ، نحن فعلاً مميزون ، ما من مرة إلا وحولنا الخطر الخارجي ، خاصة كشعب ، إلى أرقى الشعوب في العالم ، بوحدته وتماسكه ومحبته لأرضه ، وهو فعلاً يرى الوطن عرضه وحياته ، ويرى الرئيس والعلم ، رمزان لا يمكن مسهما.

لكن بالمقابل ، ما من مرة ، زال فيها الخطر الخارجي ، إلا وتصرفت السلطة تصرفاً عجيباً غريباً ، فبدل أن تستثمر ( اللحظة الوطنية ) ، إلى أبعد الحدود ، فإنها تعمل العكس ، وتهدرها إلى أبعد الحدود ، ويستجيب الشعب لهذا الهدر ، ويعود الشعب كما كان .... أوليس هذا دليل قاطع على صحّة نظرية عمّي درغام .

نحن اليوم ، أيها الشعب السوري العظيم ، نحن اليوم أيتها السلطة ، في لحظة وطنية نادرة ، فألا نستطيع أن نثبت بطلان نظرية عمّي درغام ، مرة واحدة وللأبد ؟؟

لكن أنبه : ما قيمة الرواتب والمشاريع وفرص العمل ووضع قوانين وإلغاء قوانين وتحديث وتطوير وإصلاح إداري ؟؟ ممن هذه الأشياء كلها ولمن ؟؟ من الحكومة ؟؟ من أي إنسان في هذه الحكومة ؟؟ للمواطن ؟؟ أي إنسان هذا المواطن ؟؟

مرّ الكثير الكثير من التشريعات والقوانين ، وكانت تؤدي عكس غرضها ، فكلما صدر تشريع جديد ، وما يكاد يجف حبره ، حتى يصير بشرى سارّة لفساد أوسع وأكبر ، فالقاعدة الذهبية ، كلما زادت الصعوبات القانونية ، زاد ( البرطيل ) !! برطيل القانون القديم للبناء غير برطيل القانون الجديد ، وبرطيل قانون السير القديم ، غير برطيل قانون السير الجديد ، ( ما بتوفي ) !!

أعتقد بكل وضوح ، مفترضاً ، أننا في طريق الخروج من الخطر الهائل الذي نمرّ به ، والذي لم نمرّ به من قبل ، لا في الأزمات السابقة ، ولا حتى في الحروب السابقة ، أعتقد أن كل ما يُفعل بعد الخروج النهائي من هذا الخطر الهائل ، لا قيمة له ، إن لم يجر في اللحظة التالية مباشرة للخروج النهائي من الخطر ، استثمار اللحظة الوطنية ، وعلى قدر الاستثمار يكون مستقبل الدولة ، الشعب والسلطة .

لا يهم على الإطلاق ، مقدار معرفة هذا الموظف وخبرته بأداء وظيفته ، وحتى لو أخطأ ، فهذه أشياء ليست عصية على التصويب وعلى التعلم . المهم أن يتمسك هذا الموظف ، باللحظة الوطنية ، وألا يتركها تفلت منه ، أو يسمح لنفسه أن تفلتَ منها ، المهم أن يقبل هذا الموظف أن تُقطعَ يداه ، ولا يقبل أن يُمَسّ وجدانه الوطني .

ولا يهم على الإطلاق ، ما يواجه المواطن اليوم من صعوبات ومشاكل ، مع الحكومة بكل مؤسساتها ، أومع مواطن آخر ، فهذا كله إلى حل .... إذا تمسك باللحظة الوطنية ولم يسمح لأحد أن يجبره على هدر هذه اللحظة الوطنية ، التي شعر وعبّر فيها بصوته الشجاع العالي ، أنه يفدي سوريا وتراب سوريا .

في الستينات ، كان أبي ، بعد ظهر كل يوم ، يجلس هو وبعض الجيران أمام محله التجاري ، بعد أن يرشوا بعض الماء من أجل الغبار ، فلم تكن الشوارع مزفتة يومها ، وكان يمرّ كثير من الناس ، يلقون التحية ، فيرد أبي والجيران عليها بأحسن منها ، وكنت لسبب ما أستمتع بذلك ، ومرة .... مرّ أحدهم وألقى التحية ، فلم يرد أحد ، بل أدارو وجوههم تجاهلاً ، صرخت : بابا ، هذا قال لكم ( مرحبا ) فلم تردوا ، أمسكني وأسكتني ، أصريت أن أعرف لماذا هذا الشخص ، من بين كل خلق الله لم يردوا عليه التحية ، قال لي والدي ، هذا فلان ، تبرطل بثلاث ليرات من فلان ....

جميعنا بدون استثناء ، مَنْ سيشيح بوجهه عن وجه مَنْ ....... وإلى أين ؟؟

المرحلة القادمة ، عنوانها الإنسان ، وجدان الإنسان .

الكنز الأثمن في الوجود ..... هو حين تصير اللحظة الوطنية حياةً مستمرة .