الكاتب : طه عبد الواحد

في الوقت الذي ما زال يدور فيه جدال حول توصيف ما قامت به الاستخبارات الأميركية في باكستان، يطفو على السطح سؤال حول أسباب شن هذه العملية في هذا التوقيت بالذات: لماذا قامت الإدارة الأميركية بقتل حليفها السابق بن لادن في هذا التوقيت تحديداً؟ قد يتساءل البعض: وهل كان بوسعها أن تقضي عليه من قبل؟ يتعذر تقديم إجابة واضحة على هذا السؤال، لكن يثير الشك الإدعاء بأن الولايات المتحدة كانت عاجزة في السابق عن تحديد مكان بن لادن والقضاء عليه، لاسيما وهي الدولة التي تملك، ومعها كل الدول الغربية، مؤسسات استخباراتية بقدرات هائلة، وتقنيات تكاد تكون أقرب إلى الخيالية علاوة على أساليب متطورة تشمل مراقبة وسائل الاتصال بكل أنواعها والحسابات المصرفية وتنقلات الأفراد والكثير غيره. في هذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن واشنطن لم تكن عاجزة عن العثور على بن لادن لكنها لم ترغب بالعثور عليه، لأن بقاؤه شكل لها أقوى وأفضل مبرر للتدخل حيثما شاءت وكيفما شاءت. تاريخ حروب شنتها تحت شعار "مواجهة الإرهاب" يثبت ذلك.

وباغتيالها لبن لادن تسعى الإدارة الأميركية الحالية، على ما يبدو، لتحقيق أهداف عدة في مقدمتها: أولاً التفرغ لما يجري في العالم العربي من مستجدات تشدد الخناق على السياسة الأميركية في المنطقة وتفقدها قدرة التأثير على مجريات الأحداث فيها، وثانياً التخلص من عبء الحرب على الإرهاب وانعكاساتها السلبية على هيبة وسمعة الولايات المتحدة وعلاقاتها مع الدول العربية والإسلامية. وحسب نتائج استطلاع رأي على موقع "غيدربارك.رو"، فقد أجاب 72% من المشاركين باستطلاع الرأي بأن إعلان الولايات المتحدة عن اغتيالها بن لادن في هذا التوقيت يهدف إلى "سعي الولايات المتحدة لتعزيز وجودها في العالم العربي ولهذا كان لا بد من إيجاد مصدر تهديد جديد"، بينما أجاب 9% فقط من المشاركين بأن أوباما يريد من هذه الخطوة "التربع بقوة على كرسي الرئاسة".

في الشأن الأول عملت الإدارات الأميركية المتتالية، وصولاً إلى إدارة أوباما، على كسر الموقف السوري، الذي كان وما يزال العقبة الرئيسة الوحيدة أمام مشروع الهيمنة الأميركية المطلقة على منطقة الشرق الأوسط، وتنفيذ واشنطن لمشاريعها في هذه المنطقة. إلا أن كل الجهود الأميركية باءت بالفشل. وزاد الأمر تعقيداً على الولايات المتحدة بعد تخلص مصر من نظام حسني مبارك، والتغيرات التي طرأت حتى الآن على السياسية المصرية، لاسيما توجهها نحو استعادة العلاقات الطبيعية مع سورية، وهو التوجه الذي أتت المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية أولى ثماره. وكل هذا يجري خارج سيطرة واملاءات ورغبات وخطط الإدارة الأميركية، على غير ما اعتادت.

ولما بدأت موجة الاحتجاجات في سورية سارعت الولايات المتحدة إلى استغلال الموقف وتحويل الاحتجاجات، عبر أدواتها النائمة، المحلية والإقليمية، السياسية والإعلامية، من ظاهرة سلمية بمطالب عادلة و ومحقة حسب إقرار الجهات الرسمية في سورية، إلى ظاهرة تهدد أمن ووحدة واستقرار سورية. واستكمالاً لمساعيها هذه ذهبت الولايات المتحدة إلى مجلس لاستصدار قرار يدين سورية، لكنها فشلت بذلك، فاتجهت نحو مجلس "حقوق الإنسان" وهي الدولة الأكثر انتهاكاً لهذه الحقوق، وتستخدم هذه المنظمة أو تتجاهلها وفق ما تملية مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة والعالم. هذا التحرك الأميركي يدل على تغيرات في السياسة الخارجية الأميركية وأدواتها، ويدفع إلى الاعتقاد بأن واشنطن لم تعد ترى بذريعة "الحرب على الإرهاب" مبرراً يمكن استخدامه لتحقيق مآربها، خاصة وأن التغيرات في العالم العربي لم تذهب بالاتجاه التطرفي الديني كما توقع البعض في واشنطن. لذلك تعمل الإدارة الأميركية على الظهور بمظهر "المدافع عن الحريات وحقوق الإنسان" كي تحقق ما عجزت عن تحقيقه بذريعة حربها على الإرهاب. ولايبدو أنها ستحصد هنا أيضاً سوى الفشل.

من جانب آخر لا يُستبعد أن تستغل الولايات المتحدة موت بن لادن لتعلن نجاح عمليتها العسكرية ضد الإرهاب كخطوة أولى، لتقوم بتخفيف تواجدها العسكري في أفغانستان كخطوة ثانية، وهو ما سيؤدي حتماً إلى انتقال العنف باتجاه جمهوريات آسيا الوسطى، أي نحو مناطق النفوذ الروسي، وحتى وصولاً إلى روسيا، التي قد تجد نفسها، في حال قامت الولايات المتحدة بذلك، مضطرة للتدخل كي تبقي خطر انتشار العنف بعيداً عن حدودها، ما يعني توريط الروس بحرب أفغانية جديدة قد تختلف بطبيعتها وجغرافيتها عن السابقة، لكنها ستكون أكثر إيلاماً لروسيا التي ما زالت تعيش مرحلة إعادة بناء الذات.

في هذا الشأن يبدو واضحاً سعي الولايات المتحدة إلى خلق حالة من التوتر حول روسيا وذلك من خلال تصعيدها الحملة ضد بيلاروس غرباً، مع تركيز على المحور الجنوبي، أي آسيا الوسطى وجمهوريات ما وراء القوقاز، حيث هناك ما يشير إلى توجه الإدارة الأميركية إلى تهيئة أجواء مناسبة لتكرار سيناريوهات الثورات الملونة في كل من جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، التي أجرت . وتجدر الإشارة هنا إلى جولة أجرتها تينا كيدنان مساعدة وزيرة الخارجية نهاية شهر نيسان في المنطقة بدأتها من العاصمة الأذربيجانية باكو وانتقلت بعد ذلك إلى جورجيا ومن ثم إلى أرمينيا. اللافت أن جولة المسؤولة الأميركية أتت تحت عنوان "التعرف على وضع العمليات الديمقراطية جنوبي القوقاز"، وفي وقت تشهد فيه أذربيجان بعض التظاهرات الاحتجاجية بمشاركة العشرات وربما أقل، بينما يقترب موعد الانتخابات في أرمينيا وجورجيا.

هذا التحرك الأميركي، نحو التأثير على ما يجري في سورية وتسخيره لخدمة المشاريع الأميركية أولاً، إضافة إلى التحرك نحو جمهوريات القوقاز، لاسيما أذربيجان جارة تركيا وإيران، ونحو أرمينيا حليفة روسيا الوحيدة في منطقة القوقاز، يظهر معالم سياسة أميركية جديدة مغايرة للسياسة التي قامت على "الحرب ضد الإرهاب"، وتقوم (السياسة الجديدة) على تحريك الشارع الداخلي لتنصيب أنظمة حكم تابعة وموالية لواشنطن.

خلاصة القول: تستهدف الولايات المتحدة المنطقة الممتدة من روسيا وحتى الشرق الأوسط، أي المنطقة التي ما زالت فيها مراكز قوى قادرة على الحد من النفوذ الأميركي ومواجهته، والتي تعمل في الوقت نفسه على خلق نظام عالمي جديدة خارج الرؤية الأميركية يقوم على أساس التكامل الإقليمي (مثال على ذلك المشروع التكاملي السوري لربط البحار الخمسة، ومشاريع روسيا التكاملية مثل الاتحاد الجمركي، وغيرهما). لهذا كان لا بد من عمل مثل التخلص من بن لادن في هذا التوقيت، كي تلتف السياسة الخارجية الأميركية نحو إعادة ترتيب وضع المنطقة الأهم في العالم والتي يبدو أنها متجهة نحو مرحلة جديدة خارج فلك التحكم الأميركي.