الكاتب : طه عبد الواحد

على الرغم من كثرة وأهمية الأسباب التي تملي على روسيا التمسك بموقفها من محاولات تدويل الملف السوري، كانت، وما زالت، هناك مخاوف لدى كثيرين من أن تسمح روسيا بتمرير مشروع القرار الفرنسي-البريطاني عبر مجلس الأمن. إلا أن تطوراً طرأ على العلاقات بين روسيا والناتو (ممثلاً للغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة) خلال قمة روسيا -الناتو، المنعقدة في بروكسل يوم الثامن من حزيران على مستوى ممثلي المؤسسات العسكرية من الجانبين، يبدد قسطاً كبيراً من هذه المخاوف. إذ خشي البعض من أن تعقد روسيا والغرب صفقة تؤيد روسيا بموجبها القرارات والسياسات الغربية اتجاه سورية مقابل تنازلات غربية بشأن الدرع الصاروخية.

ومع أن عقد مثل هذه الصفقة أمر مستبعد جداً لأسباب موضوعية تتعلق بطبيعة مشروع الدرع الصاروخية وأهداف الولايات المتحدة من نشرها، أي استحالة ذهابها إلى تقديم أي تنازل في هذا الشأن، إلا أنه ومن الناحية النظرية ستبدو صفقة كهذه منطقية نظراً لتبادل التنازلات بين الطرفين في ملفات إستراتيجية يؤثر كل منهما على مكانته ونفوذه دولياً وإقليمياً. إذ أن ابتعاد روسيا عن سورية سيعني خسارتها لأخر نقطة لها على البحر الأبيض المتوسط وفي العالم العربي والشرق الأوسط ككل، ما يعني انكفاء نفوذها الإقليمي على المدى الجنوبي مع ما سيترتب عليه من تأثيرات على مكانتها كدولة كبرى، وستحصل بالمقابل على تراجع أميركي عن مشروع الدرع الصاروخية الخطوة التي يستحيل أن تقدم عليها واشنطن لأنها تعني تخلي الولايات المتحدة عن نفوذها في أوربا الشرقية، وعبره في أوربا عموماً لصالح النفوذ الروسي.

خلاصة القول أي صفقة أميركية- روسية بشأن سورية لن تخرج عن سياق النظري ويستحيل تطبيقها الواقعي لأنها تعني قلب المشهد الدولي كلياً، إضافة إلى أن روسيا -حتى لو حدث وقبلت بصفقة افتراضية كهذه- ستبقى في موقع الخاسر، فهي تبعد النفوذ الأميركي عن الجبهة الغربية وتنقله إلى الجبهة الجنوبية بما تمتلكه من قدرة تأثير مباشرة على الوضع في أوربا. من هنا يمكن القول إنه المخاوف من صفقة قد تنتهي بتراجع روسيا عن موقفها الرافض لتدويل الملف السوري تبدو غير منطقية تماماً كما هي غير منطقية صفقة بين الجانبين، فالحديث يدور عن محاور إستراتيجية سيؤدي عقد أي صفقة حولها إلى تغيير وجه العالم.

لكن هل يعني هذا إنه يمكن الجزم بأن روسيا ستستخدم حق الفيتو ضد مشروع القرار الفرنسي-البريطاني؟ الأنباء الواردة من أروقة مجلس الأمن أشارت إلى تعديلات تلو الأخرى على الصيغة الفرنسية -البريطانية لنص مشروع القرار المذكور، ومع التأكيد على أنه قرار مرفوض ويشكل تدخلاً سافراً بالشأن الداخلي لدولة ذات سيادة، وبأنه لا يهدف إلى خدمة مصالح الشعب السوري إذ لا يعقل أن يكون الغرب الذي يصمت بل ويساهم في قتل العرب حريصاً على مصالحهم، فإن لهجة مشروع القرار بعد التعديلات عليه أصبحت أقل تشدداً تجاه سورية، وهو ما يؤكد سعي الدول التي عرضت مشروع القرار إلى وضع صيغة لفقراته تلاقي الحد الأدنى من قبول روسيا له ولتفادي استخدامها حق الفيتو ضده.

في الساعات الأخيرة من اليوم التاسع من حزيران، وبانتظار جلسة جديدة لمناقشة مشروع القرار الفرنسي-البريطاني الذي يلاقي الدعم الأميركي المطلق، سُجل تحول نوعي في لهجة خطاب ممثلي الدول صاحبة طرح مشروع القرار تجاه العنف في سورية ولأول مرة أقر هؤلاء بسقوط ضحايا من صفوف رجال الجيش والأمن، وناشدوا جميع الأطراف الابتعاد عن العنف. ومع ذلك فقد نقلت وكالة نوفوستي الروسية للأنباء عن ألكساندر لوكاشيفيتش، الناطق الرسمي باسم الخارجية تصريحات له اليوم أكد فيها أن روسيا تعارض أن يصدر مجلس الأمن الدولي أي قرار بشأن سورية. وأوضح أن روسيا ترفض أي قرار لمجلس الأمن الدولي بشأن سورية كما أشار إلى ذلك الرئيس الروسي مرارا، وذلك لأن "الوضع في هذا البلد لا يهدد، برأينا، السلام والأمن الدوليين".

وقال الناطق باسم الخارجية الروسية في إشارة إلى دعوات ما يسمى "بالمعارضة الخارجية" إلى إسقاط النظام السوري ورفض المشاركة في الحوار الوطني، إن دعوات من هذا القبيل لا تساعد أيضا على تهدئة الأمور في سورية.وعبر الناطق باسم الخارجية الروسية عن قلق بلاده من أنباء حول "تحول القوى الراديكالية لمواجهة وحدات من الجيش والقوات الأمنية بالسلاح"، مشيرا إلى أن ذلك يؤدي إلى تصعيد العنف ويحول دون حل المشاكل بالطريقة السلمية.وأضاف أن روسيا تدعو المجتمع الدولي لإعطاء الحكومة السورية وقتا لإجراء الإصلاحات التي وعدت بها. وأضاف أن موسكو كالسابق تعتقد، أن إعادة النظام للوضع المعقد في سورية، يجب أن يقوم بتحقيقه السوريون بذاتهم، دون أي تدخل من الخارج، ووفق القانون، وكذلك دون استخدام العنف ضد المواطنين الآمنين، ومن أجل البحث عن وفاق وطني على أساس الحوار الشامل.

إن هذه التصريحات وفي هذا التوقيت، أي بالتزامن مع الجهود الغربية المكثفة لتمرير مشروع قرار يدين سورية عبر مجلس الأمن، تدفع إلى الاعتقاد بأن روسيا حسمت أمرها ولن تسمح بتمرير مشروع القرار الأوربي، بغض النظر عن أي تعديلات قد تُدخل عليه، وستستخدم حق الفيتو ضده. ولم يسبق أن أكدت موسكو مراراً وتكراراً على موقف من هذا النوع وبهذا الأسلوب من قبل، إذ كثيراً ما يكون الصمت وعدم الوضوح سيد المشهد خلال مرحلة عرض مشاريع قرارات مثيلة للتصويت على مجلس الأمن، أما في حالة قرار إدانة العنف في سورية فإن موسكو تكرر موقفها دون أي تغيرات عليه: موسكو ترفض أي تدخل خارجي، من دول أو منظمات دولية، في الشؤون الداخلية للدول، وتأمل أن يتمكن السوريون بأنفسهم من إيجاد مخرج يرضي الجميع من الأزمة عبر الحوار وبعيداً عن العنف، بغض النظر عن مصدره.

هذا استنتاج قائم على قراءة معطيات الساعات الأخيرة قبل العودة إلى مناقشة القرار في مجلس الأمن، فهل ستكذب خبايا وخفايا دهاليز وكواليس المنظمة الدولية استنتاجات قائمة على قراءة الوقائع،وهل سيطرأ أي تغير على الموقف الروسي في اللحظة الأخيرة؟ هذا ما سيتضح خلال ساعات، والأرجح خلال أيام، في ظل الانقسام الذي يخيم على مجلس الأمن حول مشروع القرار الفرنسي-البريطاني ضد سورية.