الكاتب : مازن بلال

بعض الإشارات يصعب قراءتها عند "تفكيك" المشهد السوري، فالاضطرابات التي اندلعت منذ ثلاثة أشهر حملت معها تفاصيل وتسارع وربما تحليلا يتناول بعضا من تفاصيل المناطق، لكن المشهد السوري في النهاية لا يمكن الدخول إليه من خلال تفكيك بعض المكونات السياسية، أو قراءة المتغيرات الإقليمية أو حتى السورية الداخلية، فهناك نوع من الاختصار للمسار "السياسي - التاريخي" السوري عند تناول التفاصيل بشكل مستقل، على الأخص عند تناول مراحل ما بعد الاستقلال والدخول في التفسيرات التي دعت لحصول "انقلابات" عسكرية، يراها البعض بأنها شكلت الانحراف الأول عن المسار الديمقراطي.

عمليا هناك "سياق" عام ربما حكم المساحة السورية وكان مسؤولا عن "طبيعة الاضطراب"، فنحن لا يمكن أن نفسر الانقلابات العسكرية أو حتى الحوادث التي حكمت الوحدة مع مصر والانفصال وحتى وصول البعث إلى الحكم من الصعب وضعه خارج هذا "السياق" الذي على ما يبدو أتعب حتى الاستعمار الفرنسي الذي أعاد تقسيم سورية واقتطع جزءا منها للبنان، ورسم الحدود الشمالية بشكل جديد، ولكن السؤال المستمر هل هذا الأمر مجرد رسم جغرافي؟! أم تدبير إداري من أجل تحقيق "سلطة الانتداب" بشكل أفضل؟! وأخيرا هل كان محاولة لإعادة الجغرافية السياسية السورية إلى مساحة محددة يسهل من خلالها التحكم بالآليات السياسية؟!

الأسئلة السابقة ليست مجرد تاريخ للسرد، لأننا نواجه بشكل دائم حدثا سياسيا يعيدنا إلى خطوط التأثير الدائمة على الوضع السوري، فمنذ المؤتمر السوري الذي أعلن الاستقلال في الثامن من آذار عام 1919 برزت بعض المؤشرات الأساسية التي حكمت الحراك الداخلي من جهة، وطبيعة الإرادة الدولية من جهة ثانية:

في الصورة المبدئية كان المؤتمر السوري "طموحا" يعاكس الإرادة الدولية ويتجاوز حتى المباحثات التي تمت في مؤتمر الصلح بباريس بعد الحرب العالمية الأولى، ورغم أن المؤتمر نصب فيصل ملكا على سورية، وهو كان يرأس الوفد السوري لمؤتمر الصلح، لكن هذا الطموح قاوم بالدم الإرادة الدولية من خلال معركة ميسلون.

إن المشهد السابق ربما يشكل "المزاج السوري" الذي أنتج بشكل دائم تيارات تجاوزت الحدود الجغرافية التي أقرتها سلطات الاستعمار الفرنسي، فكان البحث بشكل دائم عن تجاوز لمسألة "الكيان السياسي" الذي وضع أمام تحد أساسي إعادة رسم ديمغرافي كامل على الأخص مع ظهور "إسرائيل".

في المقابل فإن الاختبار السياسي الحقيقي للديمقراطية السورية كان في الموضوع الفلسطينية، وظهور الانقلابات العسكرية في الشكل على الأقل كان يحمل عنوان "فلسطين" حتى يستطيع اكتساب هذا المزاج، لكن هذا العنوان تعمق داخليا وخارجيا ورسم عبر خمسة عقود "منظومة إقليمية" قائمة اليوم وتشكل جزء من التوازن الشرق أوسطي.

المؤشرات السابقة وإن كانت "تاريخية" إلى حد بعيد لكنها تقدم إحدى النوافذ الأساسية في فهم "السياق السوري" إن صح التعبير، وتفسر بعضا من العوامل المتداخلة في رسم السياسات التي قادت في النهاية إلى ظهور مرحلة ما بعد 1970 (تاريخ الحركة التصحيحية في حزب البعث)، والثبات أو الديمومة التي امتدت اليوم رغم الاضطرابات التي حدثت في مراحل متفرقة وامتزجت فيها المؤثرات الداخلية والخارجية منذ اللحظة الأولى لبدايتها.

"السياق" الذي نتحدث عنه اليوم لا يشكل رجوعا تاريخيا فقط بل محاولة لفهم الرؤية السورية التي ظهرت فقدمت "ثقافة سياسية" منسجمة اجتماعيا ولكنها تتناقض مع الواقع المفروض منذ الانتداب ووصولا إلى زمن النكبية... وللحديث بقية...