يتم التعامل مع مسالة "الحسم الأمني" في سورية من خلال مقاربة تسعى لعزل كافة العوامل والتركيز فقط على انتشار الجيش في محيط بعض المحافظات، أو دخوله إلى بعض المدن، وبغض النظر عن نوعية التحليل الذي يتم التطرق له بشأن "العمليات العسكري"، لكن الملاحظ أن البحث في هذا الموضوع وعلى الأخص من جانب المعارضة ينظر إلى الأمر من زاوية الثقة بمسألة الإصلاحات المطروحة، وخلال أكثر من شهرين كانت "المطالبات" بسحب الجيش تشكل شرطا وذلك مع افتراض أن الاحتجاجات التي ظهرت هي سلمية الطابع!
بالتأكيد فإن "الناشطين السياسيين" وحتى من تحدثوا في بداية الأزمة السورية عبر الفضائيات أرادوا النظر إلى الجيش وفق سياق ما حدث في مصر وتونس وذلك بمعزل عن أي مؤثرات أخرى يمكن أن تحملها الأزمة السورية، فهي سارت وفق آلية مختلفة من قبل جميع الأطراف، بينما بقي البعض يراهن على "انشقاقات" ربما تحدث في الجيش، وتمت مواكبة هذا الأمر بطريقة مركبة إعلاميا ابتداء من "انشقاق" مجند وانتهاء بالحديث عن خروج مجموعات أو دبابات، وبغض النظر عن صحة تلك الأخبار فإن ما حدث ينطلق من أمرين:
الأول افتراض وضع الجيش على الحياد كما حدث في تونس أو مصر، هذا إذا اعتبرنا أن الجيش في تلك الدولتين كان محايدا، لكن في سورية فإن الأمر يختلف جذريا نظرا للأدوار التي قام بها الجيش منذ الاستقلال، فهو مكون خاص داخل الدولة عبر عن نفسه بوقت مبكر عبر الانقلابات العسكرية بعد الاستقلال مباشرة، فالمسألة السياسية كانت في صلب تفكيره وربما تكوينه متأثرا بالظرف السوري الذي انطلق أساسا عبر تعبير خاص للدولة من خلال "الجيش" سواء بعد خروج الاستعمار الفرنسي، أو حتى عندما أرادت فرنسا الدخول إلى سورية فأعاد الشهيد يوسف العظمة تشكيله بشكل سريع ليحافظ على الدولة.
الثاني محاولة تكوين قناعة بأن الاحتجاجات لا تريد المس بسلطة الدولة وأن مطالبها سياسية، وبالتالي فإن مبررات تدخل الجيش في بعض المناطق معدومة، وهنا نجد أيضا آلية تضع المؤسسة العسكرية بعيدا عن القرار السياسي، لكن الأمر لم يكن متعلقا بسلمية الاحتجاجات فالوحدات العسكرية لم تنتشر سريعا بل بقيت حتى مضى حولي الشهر قبل أن تتحرك باتجاه مدينة درعا، علما أن منطقة حوران تُعتبر منطقة عسكرية بحكم تماسها مع الجولان المحتل.
عمليا فإن الحديث عن الحل الأمني هو عنوان استمرت المعارضة باستخدامه، رغم أنها عقدت مؤتمرين في دمشق مطالبة بسحب وحدات الجيش، وهي أيضا تتحرك ربما خارج خارطة الاحتجاجات لكنها تحاول تشكيل بيئة لها أو حتى شرعية ثقافية ودون أن تصطدم بالحل الأمني الذي يتم الحديث عنه، ويتضح هنا مدى التراكب الذي يحمله الحدث السوري ما بين حراك للناشطين السياسيين والتحرك على مستوى الشارع من قبل المحتجين أو من يريدون مجابهة تلك الاحتجاجات، وأخيرا "حزم الإصلاحات" السياسية التي طرحتها الحكومة ومن المتوقع إقرارها مع عودة مجلس الشعب القديم للانعقاد نتيجة عدم إجراء انتخابات، وتفاعل هذه العوامل الثلاث يسير إلى جانب أحداث عنيفة أخرى يتم اسقاطها سريعا توحي بأن هناك معارضة مسلحة أو ربما "غير سلمية" لكن توصيفها الدقيق مازال غائبا.
الصورة السورية لا يمكن قراءتها بشكل كامل دون معرفة تداخل العوامل السابقة التي تتحرك بشكل متوازي داخل المجتمع فالمسألة اليوم ليست "مظاهرة" أو غلبة "الحسم الأمني"، بل هي أيضا مجابهة على مستوى الرؤية سواء داخل المعارضة أو خارجها، وعدم الاعتراف بأن هناك أكثر من مسألة "احتجاج" وربما تصل أحيانا لمحاولة إغلاق مدن هو أمر خارج الواقع الذي يعيشه السوريون على الأقل، وفي النهاية فإن توجيه الاتهامات لا يفيد اليوم لأن الحل الأمني يبقى بطبيعته متأرجحا، بينما تشكل الحياة السياسية ضمانا وحيدا للخروج من الأزمة الحالية، فانتشار الجيش أو الحديث عن مداهمات واعتقالات لم يلغ حتى اللحظة من الجدل والحراك الاجتماعي حول نوعية البناء السياسي القادم، والبيئة لهذا الأمر ليس مسؤولا عنها أجهزة الدولة فقط بل أيضا كل القوى التي تريد بالفعل الانتقال إلى التعددية سواء كانت من المعارضة أو غيرها، والتحدي اليوم رغم كل الصخب الإعلامي هو حول تلك البنية التي تستطيع أن تحمل حياة سياسية مختلفة.