الكاتب : نبيل فياض

لا يولد الإنسان امرأة بل يصبح كذلك "!

سيمون دو بوفوار.

لموضوع المرأة إشكالية معقدة في مجتمعاتنا الناطقة بالعربية الحالية؛ خاصّة وإن جماعات التطرف الديني الجديدة تولي مسألة الأنوثة جزءاً كبيراً من جهدها الدعائي والإعلامي، لأسباب كثيرة:

1 – المرأة هي المربي الأول في هكذا مجتمعات، وإن أنت وضعت المرأة في جيبك، وضعت المجتمع كله من ثم في جيبك؛

2 – المرأة عنصر مستضعف، بل ربما يكون الأكثر استضعافاً وبالتالي قمعاً في هكذا مجتمعات، من هنا فإن إشعارها بالحماية يشكّل جزءاً لا بأس به من الإحساس بالحماية الذاتية؛ وكلما ازداد الاستضعاف والقمع، كلما ازدادت حاجة النساء للحماية؛

3 – المرأة مشيئة حتى في أرقى المجتمعات، والجماعات الإسلامية المتطرفة تعيد إخراج صيرورة التشيؤ تلك بحيث تبدو وكأنها انتشال للمرأة من التشيؤ، في حين أنها التشيؤ بعينه. والجماعات هنا تتساوق بالكامل مع إرثها ومقاربتها للأنوثة.

إن نوعاً من حوار الطرشان فيما يخص المرأة يدور منذ زمن بين جماعات التطرّف الديني والأطراف المناوئة لها. فإذا أخذنا الحجاب على سبيل المثال، سنجد كتّاب التطرّف يكيلون أقذع الشتائم لدعاة السفور، ويستدعون هنا أدبيات عصور الانحطاط مستخدمين من ثم كل ما في قواميسهم من عبارات ترغيبية-تهديدة، ذات البعد الماورائي، لإقناع النساء بصحة ما يقولون. وبما أن الجهل سيد الموقف في مجتمعاتنا، لا يوجد من يستخرج من تاريخ تلك الجماعات المتطرفة ما يمكن أن يسكتهم بالكامل.

بالمقابل، تحاول الأطراف المناوئة للتطرّف الحفاظ على آخر حصونها المتداعية أمام زحف الأصولية الطاغي، فيستخدمون لذلك أحدث مصطلحات العلوم الاجتماعية والنفسية والجينية الحديثة، فيتهمون سادة الدعوة إلى الحجاب، على سبيل المثال، بالحسية-الشبقية المفرطة، التي ترفض السفور كي لا تتطبّع مشاعرها الشبقة مع مشهد المرأة غير المعلّبة؛ وتحاول الإبقاء عليها ككيس أسود، لأن في ذلك إثارة مفرطة للخيال وللشعور الشبقي. مع أن العودة، كما نشير دائماً، إلى إرث التطرّف يمكن أن تكشف لنا عمق الإباحية التي سادت في مجتمعاتنا وقت سيطر التطرّف. لكن، قبل الدخول في موضوعنا، لا بد من الإشارة إلى المسائل التالية:

1 – يعاني المجتمع الناطق بالعربية من تخلّف مقذع فيما يخص العلوم الإنسانية، خاصة تلك المتعلقة بالبحوث الجينية أو النفسية أو الاجتماعية، التي تتعمّق وتتفرّع بشكل شبه دوري. بالمقابل، يطلع التطرّف الديني علينا باستمرار بأدبيات حديثة أو قديمة-مستحدثة، تتناول القضايا الاجتماعية-النفسية-التربوية من منظور لا مثيل له اليوم في بعده عن العلم والمنطق؛ الأمر الذي يساهم في رفد التخلّف بمساهمات لا تنتهي.

2 – تساهم أدبيات التطرف الديني، بقصد أن دون قصد، في تشويه الحضارة الإسلامية الناطقة بالعربية، عبر فيض منشوراته الضخمة. إن تركيز الأضواء على سادة التطرّف الإسلامي الناطق بالعربية، كابن تيمية ومدرسته؛ أو إقحام الأدبيات الشعوبية المتطرفة في البنيان الحضاري الإسلامي الناطق بالعربية، وحجب النور عن سادة العقلانية من المسلمين الناطقين بالعربية، كابن رشد والكرماني ورموز المعتزلة كالزمخشري وابن أبي الحديد – كل ذلك كان الجريمة الأكبر بحق العقل الإسلامي الذي يفكّر بالعربية.

3 – إن غالبية المؤلفات التي تعالج وضع المرأة، الصادرة اليوم باللغة العربية، مؤلفوها من الذكور. والرجل لا يمكنه، مهما توسعت مداركه، أن يضع نفسه مكان الأنثى، في أمور تخص الأنوثة؛ أو أن يتمثل على نحو صحيح بالكامل، أوضاعها الجنسية أو النفسية أو الاجتماعية. وتزاد الأمور سوءاً حين تصدر تلك الكتب عن ذكور متطرفين يفهمون المرأة من خلال المنظور الديني الأبوي-البطريركي، رافضين أي انفتاح على علوم العصر، تحت عناوين خادعة كالتغريب والكفر والاستعمار.

4 – مع ضرورة الإشارة إلى دور المجتمع والدين والتقاليد في تضييق فرص الإبداع والخلق أمام المرأة قياساً إلى الرجل، فإن قلة قليلة من النساء استطاعت تحدي الموانع الذكرية لإيصال أصواتهن العالية؛ وهؤلاء ينتمين بالفعل إلى أصناف فكرية-معرفية متباينة، وبالتالي فإن مقارباتهن لمسألة الأنوثة تتباين أحياناً وتتعارض أخرى:

أ – نوع تسيطر فيه اللغة الجارحة على منطقة العقل. وقد نجح هذا النوع في تحقيق نجاحات كبيرة في الأوساط النسائية لكن لا ندري مدى رسوخها. وأشهر من مثلت هذه النوعية الدكتورة نوال السعداوي.

ب – نوع نرجسي، حميم، تستغرق أناه أية موضوعية، يطرح مشاكل الأنوثة أدبياً من باب الذاتية المفرطة، دون أن يدخل في متاهات الحلول الموضوعية الواقعية، لأنه ينتمي أصلاً إلى طبقة بورجوازية لا تعاني من حدة المشاكل التي تعيشها غيرها من النساء. وأبرز من مثل هذا الخط الأديبتان، غادة السمان وكوليت خوري.

ج – نوع منطقي، هادئ، عقلاني، عالج مشاكل المرأة بعمق، وطرح حلولاً ملفتة. لكن مشكلة هذا النوع هو انتماؤه إلى الشكل الأكاديمي الذي يصعب على المرأة العادية، التي هي بأمس الحاجة أصلاً إلى فهم واقعها ومشاكلها، أن تفهم أطروحاته وآرائه. ومن البارزات في هذا المضمار: آمال رسام، منى فياض، يمنى العيد وفاطمة المرنيسي.

د – نوع رابع مستلب " ذكريّاً-دينياً " بالكامل، يسعى إلى تدجين المرأة بأية طريقة، من أجل اكريس التبعية للذكر. أدبيات هؤلاء النساء، بمعنى ما، ظل باهت لكتابات ذكور جماعات التطرف الديني. من هؤلاء يمكن أن نذكر: كريمان حمزة وزينب الغزالي.

5 – لا يجب أن نغفل هنا القمع والإحباط اللذين يتعرّض لهما الفرد في المنطقة منذ زمن طويل، وسلسلة الهزائم التي تحيق به على كافة الأصعدة؛ ويزداد الشعور مرارة حين يقارن حاضره المحبط بما صوّر له على أنه ماض زاهر، حين وصل المسلمون إلى الصين والأندلس، وكانوا بشكل أو بآخر " أميركا " العصور الوسطى. الظلم يطال المرأة في هذه المسألة من جانبين: فهي من جهة تحتل الدرجة الدنيا في السلم الاجتماعي، وتتحمّل بالتالي ركام القمع برمته؛ ومن جهة أخرى، تشكّل المرأة الميدان الأرحب والأسهل الذي يمكن فيه للفرد المهزوم، خاصة بين جماعات التطرّف الديني التي لا علاقة لها بالفهم الحقيقي لمسألة العلّة-المعلول، أن يحقق فيه شيئاً من انتصار، فيثبت لنفسه واهماَ، وهو المستلب حتى النخاع، أنه يستطيع التعويض عبر الأنثى.

6 – إن المعنى الرائج هذه الأيام لتحرر المرأة ذي الصبغة الغربية، خاصة بين العوام، والذي تعمل على ترويجه معظم وسائل الإعلام، هو ذلك الذي يهمل تنمية شعور الحريّة الداخلي الأعمق عند الأنثى، ويركّز حصريّاً على الجانب الخارجي-الجنسي للمرأة. ولهذا الشكل المسخ للتحرر سيئتان بارزتان: فهو من جهة يعطي جماعات التطرّف الديني المبررات الأسهل لمهاجمة كافة أشكال التحرر عبر ربطه بالابتذال؛ ويساهم من جهة أخرى في إعادة تشييء المرأة، التي خرجت لتوها من عصر القيان والجواري والسذج، لتعود إلى حالة رق مغلفة بقشور زائفة من العصرنة والتحضّر.