المأزق الأساسي الذي رسمه الإعلام منذ بداية الحدث السوري كان في الحديث عن "الحل الأمني"، وذلك في مقابل البحث عن الموضوع السياسي أو ربما الحل الذي بقي مفقودا طوال الأشهر الماضية، فمسألة الفصل ما بين الأمرين جاءت في الزمن الحرج ووسط مقاربات لا يمكن الابتعاد عنها بعد أن سقطت بنغازي بيد "الثوار" وتم فرض حظر جوي على ليبيا أدى في النهاية لسقوط نظام معمر القذافي.

عمليا فإن الحديث المبكر عن الحلول الأمنية في مقابل "قطيعة سياسية" إن صح التعبير لم تكن فكرة "السلطة السياسية" في سورية بقدر كونها سيناريو إعلامي صور التظاهرات التي تريد "إسقاط النظام"، وهو ما يوحي بالتصادم المباشر ما بين الحلين وعلى نفس الطريقة التونسية أو المصرية أو الليبية أو حتى اليمنية، ومع التفاوت في الظروف الخاصة بكل بلد فإن النموذج الذي تم رسمه في تغطية الحدث السوري لم يكن مختلفا عما كان يجري في ليبيا مع ملاحظة أمرين: الأول هو التردد الدولي في البحث داخل الأزمة السورية لسبب وحيد مرتبط بالتحضيرات لتدخل الناتو في ليبيا، والثاني اعتماد الغرب عموما على تركيا وقطر لحسم الصراع خلال الزمن الممتد من صدور القرار الدولي بفرض حظر جوي على ليبيا إلى مرحلة دخول طرابلس.

لكن المسألة الأساسية كانت في التركيز على مسائل "الحل الأمني" مع إدراك كافة الأطراف التي أرادت التأثير على سورية إلا عدم إمكانية جمع أطياف المعارضة داخل سورية كما حصل في ليبيا، فالموضوع بالنسبة لهم لم يكن فقط "تحرير منطقة" بل إيجاد توتر أمني دون ظهور قيادة سياسية داخلية، لذلك فإن عمليات التجميع كانت تجري في تركيا، بينما كانت المناطق السورية تلتهب، وفي أحيان كثير يصبح الصدام عسكريا بالكامل، فهل كان الحل السياسي ممكنا في ظل هذا الوضع؟

السؤال بذاته يحمل نوعا من التأزيم أو دفع الأمور باتجاه واحد، لأن رسم نموذج "الثورة" إعلاميا كان يحمل التفضيل بين الخيارات، وعلينا هنا ملاحظة ثلاث أمور مرتبطة بالسيناريو الإعلامي:

الأول أن بداية الحدث بذاته لم تكن تحمل استقلالية، فبغض النظر عن نظرية المؤامرة، إلا أن التغطية الإعلامية منذ الحدث المصري كانت تسير بشكل مطلق وربما قدمت ثقافة بأن "الثورات العربية" أمرا حتمي الحدوث، فسورية التي تأثرت بما يجري في محيطها وقعت في مأزق الخيارات التي كرستها التحليلات اليومية التي رافقت الاضطرابات من بدايتها إلى اتساع رقعتها كـ"حدث مسلح".

الثاني ساعدت الحملة الإعلامية على مسح أوجه القيادة في الداخل، حيث كان المطلوب إضفاء سمة الشعبية على الحراك، ولكن السؤال هل يمنع وجود قيادات صفة "الشعبية على الحراك؟ ربما كان رسم النموذج السوري ينطلق أساسا من سعي لربطه ببقية النماذج الأخرى، إلا أن الزمن الطويل أثبت أن السيناريو الشعبي كما ينقل الهم السياسي إلى خارج البلاد على حساب الصراع المسلح الذي يظهر بشكل تفتيتي.

الثالث فصل الحل الأمني كخيار مستقل إعلاميا قطع الباب على أي حراك سياسي داخل، فحتى لو كانت كافة الإجراءات الإصلاحية غير مقبولة، لكن التركيز على أن هناك خياريين وليس حلا وطنيا، دفع الأمور إلى مقاطعة الحلول السياسية المقدمة من الدولة بشكل مبكر، وبالتالي قلل من إمكانية ظهور بيئة سياسية تستوعب الاضطراب.

الحديث اليوم عن مسألة الأمن أصبح هاجسا عند شريحة كبيرة من المجتمع، فتكسير الحلول السياسية أو حالة الحدية تجاه أي إجراء سياسي أنهى أي حالة حوار ممكنة، في وقت كان السيناريو الإعلامي يسير نحو صورة تريد تأكيد انحسار قوة الدولة على المناطق السورية؟ فهل هذا الأمر صحيح؟ وهل عدم وجود الجيش في المناطق المختلفة مؤشر على تراجع سلطة الدولة؟! الأمر يبدو أعقد من تبسيط الأمور بشكل يوحي بانتصار طرف على آخر، فالحدث السوري منذ البداية كان يتجه نحو التأكيد على خيارات متباينة، والحملات الإعلامية والتحالفات الإقليمية والدولية اتجهت نحو هذا الأمر، لكن المسألة ليست في "التفوق الأمني" بل بالاعتراف بأن هناك سلطة دولة وحلول سياسي أو "بناء سياسي" يجب أن يظهر ينقلنا إلى مسافة آمنة من الاضطراب الذي حصل.