تم سحب السفراء لدول مجلس التعاون، وهم خارج سورية أصلا، بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الروسي إلى دمشق، لكن مسألة التوقيت يمكن تجاوزها على الأخص أن مسألة "فرز القوى" داخل الشرق الأوسط ظهرت حتى قبل الذهاب إلى مجلس الأمن، فرسم الخطوط داخل المنطقة كان واضحا وربما مترابطا مع تصاعد الحدث السوري، فالإجراءات الخليجية اليوم تبدو على مساحة مختلفة وربما مرتبطة بالتدابير القادمة والمتعلقة بالتوازن الجديد للشرق الأوسط.

عمليا فإن القراءة الأولى لما يجري تقدم مؤشرات على أن صراع الإرادات حول سورية يتم فيه استخدام كافة الأوراق دفعة واحدة، فعدم القدرة على خوض معركة مباشرة عبر الناتو أو غيرها دفع كافة الأطراف لاستخدام ما تملكه من "منافذ" دبلوماسية للتأثير على الوضع الميداني، وهو ما يهدد عمليا بإغلاق كل الهوامش السياسية المتاحة، فالرهان في اللحظة الراهنة على خاسر أكبر أو رابح أكبر فهل تصح مثل هذه المعادلة في سورية تحديدا؟!!

ربما علينا أن نفهم المعادلة السورية الناشئة، أو حتى التفكير الروسي في المنطقة قبل الانطلاق باتجاه تحديد الخيارات الخليجية، فهناك مسألتين أساسيتين:

الأولى أن موسكو وبكين أيضا تسعيان لتبديل مسار إدارة الأزمات الدولية، وتبدو سورية هي نقطة الاختبار، وكان واضحا في الخط الذي سارت عليه "المبادرة العربية"؛ ابتداء من طرح بروتوكول المراقبين ووصولا إلى مجلس الأمن أن هناك نوعا من السباق في المبادرات، فمبدأ الصيغة الواحدة لحل الأزمة كما حدث في ليبيا أو غيرها من مناطق العالم لم يعد مقبولا بالنسبة لروسيا أو الصين، فالدولتين تنظران إلى سورية على أنها منطقة صالحة جدا لطرح أدوات جديدة في إدارة الأزمة، وجاءت زيارة سيرجي لافروف ومن ثم التصريحات الصينية بهذا الخصوص لتعزيز مسار سياسي متعدد الجوانب تمت مناقشته سابقا في الجامعة العربية، وتسعى موسكو لتوسيع إطاره، فالحل السياسي بالنسبة للكرملين أساسي ولكن على قواعد مختلفة وغير انقلابية.

هذا الأمر لا تتم ملاحظته من قبل السيناريو الآخر المطروح "خليجيا" لكنه في المقابل مدعوم أمريكيا، فالمسألة بالنسبة لهم هي تبديل الموقع الاستراتيجي لسورية وذلك بغض النظر عن الأسباب والوقائع أو حتى شعارات الحرية والديمقراطية، وفي نفس الوقت فإن المهل الزمنية التي تم طرحها لسقوط النظام السوري خرجت عن إطار الحرب المعنوية لتصبح تحد سياسي، بينما يبدو السبيل الوحيد هو في عمليات الكسر الاقتصادي لخلق انهيارات داخل سورية، وربما لهذا السبب تبدو دول الخليج منخرطة في هذا الموضوع كونها "الرمز الاقتصادي" أكثر من كونها "المكون الاقتصادي" للمنطقة، فطرد سفراء سورية سيدخل في إطار إنهاء الثقة الاقتصادية في الوضع السوري الحالي، أو حتى افتراض وجود يقين كامل بأن الوضع سينتهي بأسرع مما يتصور البعض!

بالنسبة لروسيا، وهو أمر ثان، فإن الرهان على الزمن لم يعد شرطا للتعامل مع الأزمة الحالية، فهي تبحث عن تأسيس علاقة مختلفة وتضمن على الأقل علاقات استراتيجية إن صح التعبير للفترة القادمة في حال وصول بوتين للرئاسة، أما بالنسبة للإدارة الأمريكية فرغبتها في ترحيل الأزمة للمرحلة المقبلة لم تعد تخضع لنفس الشروط، وهي تحمل معها أيضا ذكرى سيئة للحرب على غزة وانقسام دول الخليج في هذا الموضوع، ولو على مستوى الشكل، الأمر الذي أدى لتحول سريع في الحدث وانفراج على مستوى الدور السوري على الأقل، فحسم المعركة في سورية قبل الانتخابات يعاني حتى اللحظة من صعوبات، وتشكيل جبهة خليجية متكاملة يضمن عدم حدوث مفاجآت في المرحلة "الهلامية" التي تلي الانتخابات الأمريكية.

التكتيك الخليجي مرسوم لتعطيل التحرك قبل الانتخابات الأمريكية القادمة، وربما لضمان أعلى أنواع التصعيد مع إغلاق الهامش السياسي أمام دمشق، لكنه في المقابل لن يصل إلى خاسر أكبر أو رابح أكبر فالمعادلة السورية مبنية على أساس "مفصل للتوازن"، ولهذا الأمر تحاول دمشق التعامل بهدوء وحذر مع كل الخطوات الإقليمية.