ما أصعب تلك المقاربة، وما أبعدها عن قذارة الاستقطاب السياسي الذي يلفنا، ففي دمشق هناك من سيتوجه من الجامع الأموي إلى الكنيسة المريمية، وفي منطقة أخرى بالأمس ظهر أصحاب العمائم لـ"نصرة الشعب السوري"... وأتذكر أن مسار "النصرة" يحمل على ظهره أربعة عقود من تاريخ الدم في أفغانستان، فهل ما حدث أمس في الدوحة هو "وعيد" للشعب السوري...

في وطني سينتقل البعض ما بين "الأموي" و "المريمية" وهم يحملون معهم تراثا مختلفا، وذاكرة تفرض نفسها على كل من زار سورية أو عاش بها، وسيحملون معهم القلق القاتل الذي يلف السوريين، لكنني على إيقاع حركتهم أغفو، وأستريح في تلك الوجوه الممتدة من حلب إلى دمشق، ومن حمص إلى طرطوس، فيصبح العنف نوعا من "الشرود" في زمن نعلق فيه أوسمة التصريحات والتصريحات المضادة، ولون الدم لا يدفعنا إلا لمزيد من العشق الذي نغطي به أجسادنا.

وأغفو على الحب المزروع غصبا عن "القرضاوي" وعن الوجوه الصفراء التي تحدثت عن سورية وكأنها "قطعة أرض"، فوطني بشر يعانق الجميع ويحمل معه "المزاج" الغاضب وينتقل من مدينة لأخرى، ووطني نزار قباني وفارس الخوري والمساحات الاستثنائية لـ"ابن تيمية" التي أفهمها بزمنها وظرفها، ووطني أخيرا وليس آخرا ديك الجن الحمصي الذي يزين قلبي كل صباح ومساء.

وأعرف من مساحات الدم قدر في وطن يعرف أن أحلامه أكبر من المساحة المرسومة له، وقدره محفور في الأجساد التي ترسمه اليوم، فهو وطن "الخيال" الذي يعانق الجميع ويستمتع بالقسوة التي تضربه في كل لحظه لكنه يدرك أنه يحمل تموز ويحتضن المسيح ويرفع "المذبح" كرمز لصليب أتعب العالم وبقي رمز الخلاص، وعندها يصبح الدم فوق اللهو الإعلامي الذي يسطره البعض من على المنابر، فمنابر دمشق رحمة لا تعرف سوى طمأنينة مسجد ابن عربي ورحابة المدرسة العمرية وهدوء كنيسة حنانيا ونافذة بولس التي تفتح لنا مسيرة الأمل والألم، وذاكرة جامع أرطوغلو وليالي الطرب الحلبية، فحدية الحياة هي في النهاية صور سورية.

سأغفو على مساحة العشق الممنوحة إلي من صور المدن المزروعة كتاريخ للغزل وللتصوف، وكمساحة لعوالم خلقها "البتاني" واضعا فيها حسابا رياضيا لا يقل دهشة عن قصائد المتنبي في مرابع سيف الدولة، فهذه سورية وسوريتي التي تعلمني أن الموت ربما يخطف البعض أو يحاصرنا من مساحة الرمل في دول الغاز والنفط، لكنه في النهاية يكمل الحياة بكل ما تحمله من مفاجآت وتناقضات وفوضى، فسورية ليست خلاصة العالم لكنها خلاصتنا نحن...

من الأموي إلى المريمية نسير ونحن نعرف أن سورية تتم كتابتها من جديد اليوم ولكن بإيقاع سوري فقط.