تحركت السياسة داخل سورية نتيجة الأحداث التي اندلعت منذ عام، لكن نوعية الأزمة السورية المركبة لم تتح تشكيل بيئة سياسية أو حتى بوادر لمثل هذه البيئة، وبغض النظر عن تحميل طرف دون آخر المسؤولية لعدم بلورة العمل السياسي الجاد، إلا أن الوضع السوري اتجه نحو مسارات خطيرة، فالمسألة ليست فقط "عنفا مسلحا"، بل أيضا ترافق مع عوامل الإقليمية ودولية في دعم عملية الاضطراب، وفي اتخاذ الساحة السورية كجغرافية لإعادة تكوين التوازنات داخل الشرق الأوسط، حتى ولو أدى ذلك لرسم خرائط جديدة تدفع لمزيد من التوتر والتصعيد، وربما تهدد السلام الإقليمي.

عمليا فإن الحديث عن الحوار ليس أمرا جديدا، فالحكومة السورية حاولت إطلاق مثل هذا العمل، وذلك وفق شروطها، ورغم ذلك فإن ما طرح خلال الجولات الخاصة بهذا الحوار نقل جانبا هاما من هاجس المواطنين وبعض أطراف المعارضة، إلا أن شروط الحوار بقيت ضمن حالة من الاستقطاب ما بين "المعارضة في الخارج أو الداخل ورؤية الحكومة للأزمة، وباستطاعتنا أن نستنج وبشكل سريع مجموعة من النقاط التي ظهرت منذ إطلاق هذا الحوار في دمشق:

  لم يسعى الحوار إلى إطلاق "رؤية للأزمة" وهو امر أساسي للخروج منها، فالهدف منه وعلى الأخص ما ظهر في دمشق هو وضع حلول في أغلبها اعتمدت على تفكيك بنية الدولة الحالية، أما باقي الحلول فاستندت إلى اعتماد إجراءات لا تصل إلى صلب الأزمة.

  غياب عدد كبير من النشطاء السياسيين أو حتى التيارات المعارضة أوجد نوعا من عدم التوازن، فظهر الحوار وكأنه "طرف" يريد الاستماع إلى طرف آخر.

  كشف الحوار نوعية الفراغ الموجود على صعيد البيئة السياسية، حيث لم يسبقه أو يتبعه حراك متعلق به سواء على صعيد الأحزاب الكلاسيكية أو تلك الناشئة.

عند الحديث عن الحوار في موسكو فإن الصورة الكاملة له لم تتضح بعض، فهناك أطراف موافقة أساسا على مثل هذا الموضوع، لكن العقدة الأساسية في إكساب هذا الحوار شرعية دولية أكثر من كونه "حوار" للطيف السياسي السوري، على الأخص أن الخارطة السياسية السورية لما بعد 15 آذار 2011 لم ترتسم بعد ولم تكون قاعدتها الاجتماعية بالكامل، فهناك أحزاب في طور التشكل وهناك اتجاهات تظهر وتغيب دون أن تترك أثرا على الساحة العامة.

عمليا فإن الحديث عن "طيف سياسي" يتحاور تحتاج إلى معايير باتجاهين: الأول هو معيار سوري ربما لا يمثل كافة الشرائح بل على الأقل تلك القادرة على التأثير في الحياة العامة، وهو ما سيجعل "الحوار" تجمعا لشخصيات سياسية ومعها بعض الأحزاب والتيارات، والمهم ملاحظة أن مثل هذا الطيف سيخرج عن إطار "التفاوض" باتجاه الحوار، أي تحديد جملة مبادئ وقيم للحياة السياسية السورية، فالمخاوف الأساسية اليوم لدى طيف لا بأس به تتجلى في موضوع "السيادة" وهو شان حساس ليس فقط بالنسبة للحكومة السورية بل أيضا لجملة المواطنين الذين راقبوا انهيار السيادة لعدة دول مجاورة لسورية، في المقابل فإن طيفا آخر يخشى أن يتم تقليص الديمقراطية على حساب التعامل مع مفهوم السيادة الذي يفرض في ظل الواقع نوعا من "السلطات الواسعة" للحكومة والدولة، وربما يدفع لحالة من الأحادية السياسية الذي عانى من السوريون أيضا.

المعيار الثاني عليه التعامل مع الرؤية الدولية للمعارضة السورية، فهي ترى استحالة وجود معارضة منظمة في الداخل، وبالتالي فإن أي طيف سياسي داخلي لا يمكنه أن يعبر عن حل سياسي كامل، ومهما بدت المعارضة السورية في الخارج "مشتتة" لكنها مسلحة بأمرين أساسيين:

• الأول هو الدعم الدولي المطلق لها، فهي التجلي السياسي الوحيد الذي تعرفه الدوائر الأوروبية والأمريكية عن قرب، وهي أيضا تملك توافقات مع الكثير من السياسات الغربية، وربما تم رسم التوجهات على أساس مسألة "الشراكة" مع هذا الطيف المتناقض الموجود خارج سورية.

• الثاني أن هذه المعارضة تملك "حالة تاريخية" لأنها الوحيدة التي شكلت تصادما دائما مع السلطة السياسية، وعلى الأخص الأخوان المسلمين، فهي ترى نفسها صاحبة الحق في التعبير عن الصورة السياسية القادمة رغم بعدها الذي يقارب الثلاثة عقود عن الظروف الداخلية لسورية.

إن جمع المعيارين يبدو مستحيلا في الظروف الراهنة، ومسألة مقاطعة الحوار هو الاحتمال الأكثر ظهورا اليوم، على الأخص أن الولايات المتحدة وفرنسا ودول مجلس التعاون الخليجي دعت لمؤتمر آخر "أحادي الجانب" أيضا سيعقد وفق ما هو معلن في نهاية الشهر الحالي، فالمبادرة الروسية اليوم تبدو على محك التحرك الذي يمكن أن تقوم به موسكو من أجل رسم ملامح الحوار القادم، وربما بمشاركة سوريين موجودين خارج دائرة الاستقطاب الحاد على مستوى ما يسمى المعارضة والموالاة. هل موسكو قادرة على التعامل مع هذا الوضع...؟

يمكن النظر إلى إمكانية انعقاد الحوار في موسكو من زاوية تفادي الظرف السابق الذي ظهر في دمشق فتحول كـ"حوار" إلى نقطة مبهمة فهو دفع "السلطة السياسية" إلى إصدار قوانين لتنظيم الحياة السياسية، لكن في المقابل لم يجعل القوى السياسية الأخرى تستعيد الثقة بإمكانية التوصل إلى إطار عام لحل المسألة السورية، ومن هذه الزاوية فإن أي حوار قادم سيحمل معه تساؤلين أساسيين:

الأول هو إمكانية أن يشكل مثل هذا اللقاء تجميع الإرادة السياسية لمختلف القوى، وبالتالي استعادة الثقة بين الأطراف حول طبيعة المشاركة السياسية للتصدي للظرف الخطير الذي تمر به البلاد، ولرسم أفق المستقبل في ظل التعددية السياسية.
الثاني القدرة على تصفية النتائج التاريخية لكل الصراعات السياسية السابقة التي أنتجت ما يسمى "معارضة الخارج"، فالمسألة ليست عودة هذه المعارضة إلى سورية، بل قدرة المجتمع السوري نفسه على إنتاج حياة سياسية لا تحتاج إلى قوى مهما كانت لكي تمارس عملا خارج البلاد.

البعض ينظر اليوم إلى أي لقاء في موسكو على أنه يجري على أرض "غير محايدة"، وهو مسألة تحمل معها نوعا من "المحاسبة" للموقف الروسي في مجلس الأمن أو حتى دعمه للحكومة السورية خلال الأزمة، لكن المشكلة الحقيقية أن الأزمة السورية منذ البداية لم تحمل معها "أرضا" محايدة، فالعوامل الإقليمية والدولية تفوقت بشكل سريع على أي عامل داخلي، وربما من المهم تحديد الطرف الذي يمكن مخاطبته في معارضة الخارج، لأن هذه "الكتلة" ليست على مساحة واحدة في رؤيتها لما يحدث، وربما سيشكل النجاح الأولي لمثل هذا الحوار ولو في التحضيرات تبدلا واضحا في منحى رؤية الأطراف السياسية السورية لإمكانية رعاية موسكو لمثل هذا الأمر.