التباين في تفسير "الغارة الإسرائيلية" على منطقة جمرايا في ريف دمشق يوضح أن القلق بشأن سورية تجاوز الخطوط الحمراء للصراع، فالعملية الإسرائيلية في صورتها الأولى إلغاء كامل لحالة سياسية سابقة وذلك مع نقل المعارك إلى قلب سورية من جهة، إذا كانت "إسرائيل" قامت بعمل واحد مشابه على الأقل يشابه اعتداءها أول أمس، فإنها اليوم تحمل معها حزمة مختلفة ورسائل جديدة، وهي على ما يبدو موجهة إلى أطراف متعددة وليس فقط إلى السلطة السياسية السورية.

عندما دمرت "إسرائيل " منشأة "كُبر" في منطقة دير الزور كانت لديها ثلاث اعتبارين أساسين: الأول هو إدخال سورية في مجال الجدل حول مسألة "المنشآت النووية"، حيث تحول الاعتداء إلى ملف ضد سورية وشكل دائرة ضغط على دمشق، أما الأمر الثاني فمتعلق بالأهداف الداخلية لـ"إسرائيل" عبر كسر أي احتمال يدفع سورية للتوصل إلى تقنيات تغير من معادلة الصراع، فبغض النظر عن الموضوع النووي إلا أن المنشأة المدمرة تحمل ما يكفي من الغموض بشأن نوعية الاختبارات التي يمكن أن تجري داخلها، ولكن الظرف السياسي تحول بشكل كامل بعد دخول سورية بأزمة حادة.

الاعتداء "الإسرائيلي" الجديد لا يحمل نفس الأهداف الاستراتيجية، فمهما كانت أهمية المنشأة التي تم استهدافها فهي بالتأكيد، وبعد عامين على الأزمة، لا تحمل نفس الثقل العسكري، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن نفس المنشأة كانت عرضة لهجوم مستمر من "التمرد المسلج" فإنها على الأقل لا تعمل وفق الشكل الاعتيادي، فهل فرصة تدميرها سيشكل كسبا استراتيجيا للعدو الإسرائيلي؟

إن فرصة ضرب منشأة داخل سورية يمكن أن يصبح أمرا مهما، ولكن ضمن الظرف السياسي فإن جملة اعتبارات إضافية يمكن أن تدخل في المعادلة العسكرية يمكن رؤيتها بالأمور التالية:

 الأولى أن مثل هذه الضربة حتى ولو كانت بالتنسيق مع الولايات المتحدة، لكنها تنظر إلى كافة "الأطراف المعارضة" لأنها تريد وضع المعادلة السياسية السورية خارج "توازن القوة" الذي كان يعتبر عنوان المراحل السياسية السابقة.

عمليا فإن "إسرائيل" ترى أن الظرف السياسي لا يحتمل بقاء التوجه الكلاسيكي للصراع معها قائما، وأن أي حوار قادم يحمل ظلالا سياسية لمسألة الصراع معها، وهي لا تريد باعتدائها الحالي إثبات قوتها أمام كافة الأطراف، بل تأكيد أن حساباتها مختلفة عن كافة ما يجري اليوم بين الأطراف السياسية السورية، فلا "جبهة النصرة" تعنيها ولا طبيعة السلطة السياسية، ولا حتى أي طرف معارض، فالمهم إعادة النظر إلى وجودها في المنطقة من خلال الأزمة السورية.

 الثاني أن مسألة التصعيد بخصوص السلاح الكيميائي الذي تم دفعه للواجهة قبل يومين هو جزء من "حزمة القوة" ولا يعبر عن كافة التوجهات "الإسرائيلية" بشأن الأزمة السورية، وحزمة القوة تعني في النهاية أن "إسرائيل" ستمضي في اختبار الوضع السياسي السوري الجديد حتى ولو اقتضى الأمر القيام باعتداءات على أهداف محددة لا تحمل سوى مضمون معنوي.

 الثالث أن حسابات الأزمة وحلولها يجب أن تأخذ بالاعتبار حالة الكشف الاستراتيجي القائمة اليوم، فهناك اعتداء على دولة تخوض صراعا عسكريا من نوع مختلف، وبالتالي فإن كافة الأشكال العسكرية داخلها لن تغير من التوجه "الإسرائيلي"، وهو ما تريد "تل أبيب" وضعه داخل ميزان حل الأزمة السورية.

بالتأكيد فإن ما حدث تجاوز كل الرهانات التي ظهرت خلال يومين بشأن قدرة "إسرائيل" على القيام بعمل عسكري، وحلفاء دمشق ربما يراقبون ما يجري بقلق مختلف لأن هذا العامل الجديد هو لإحراجهم جميعا، فبالتأكيد "إسرائيل" لا تريد خوض حرب إقليمية، وهي تعرف أيضا أن اللحظة الحالية لن تتيح لإيران وحزب الله التعامل بهامش عريض مع ما يجري، والتحول المحتمل اليوم لن يكون واضحا لأنه سيجري ضمن آليات حل الأزمة التي ستتعامل مع حسابات القوة التي وضعها الاعتداء "الإسرائيلي" أمام الجميع.