بدأت أفهم... واستوعبت أخيرا ان مسائل السياسة يمكن ان تصبح مجرد لفحة او مساً من "خرفٍ"، وأن التاريخ السوري يحوي، مثل أي كائن حي، طفرات قادرة على خلق "مسوخ" سياسية، فتصبح سورية عاصفة استوائية تمطر صيفا وتجعل دبق الرطوبة مخيما على حركاتنا، ونعجز حينها فلا نحزن ولا نفرح، ونتسمر وراء الكلمات وردود الفعل التي تصفعنا ونحن مستلقون باتجاهين مختلفين.

وبدأت أفهم أيضا كيف يصبح "قصف الهاون" استكمالا لـ"مسخ" حرب يريدون منها التعويض عن اشتياق المواجهات الحقيقية، ففي أي قمة عربية تعيد الحروف والكلمات تذكيرنا باننا رهن الماضي وأن الحاضر هو فقط "نماذج" لا نستطيع سوى النظر إليها والتفكير بـ"قلعة الشموخ" وبالعباءات البيضاء الناصعة، وفي النهاية تصبح الصراعات حالة شاذة أمام "بلادة" السياسة، وقدرة الهروب حتى من طواحين الهواء.

لم يبدلوا العلم السوري... لم يرسموا مساحة مختلفة لجغرافيتنا، لكن الطفرات المتلاحقة خلقت سوريين على شاكلة مصافي النفط ورائحة الغاز المحترق، ففي النهاية هناك من يتحولون بنفس الطريقة التي يتمدد فيها الرمل باتجاه مساحات الخضرة، ويعجزون عن التواجد تحت ظل شجرة أو علم وطن يعبر عن دماء سالت منذ أول "جمهورية" وحتى اليوم، واستبداله هو استرخاء فوق القحط، وهو أيضا سكون واستسلام لسكرات الموت.

في سورية قذائف تتطاير، وفي محيط جغرافيتنا لون رمادي لا يفقه أن "السياسة" ليست سيناريوهات ومشهد تمثيلي يمكن تركيبه في أي لحظة، فهي نار مشتعلة يصعب في كثير من الأحيان التحكم بها على شاكلة "الغزوات" وحروب القبائل، فالجغرافية تملك هويتها وتخلق آلياتها، وفي لحظات يبدو "انتقام الجغرافية" أصعب من أن يتحكم به زعيم قبيلة أو قاعدة عسكرية مزروعة وسط حقول الغاز والنفط.

القمة في الدوحة علمتني شيئا واحدا هو أننا عندما نرحل عن جغرافيتنا فإن الطفرات تصبح أكثر من احتمال، فيقيني أن سورية ليست جينا داخل أجسادنا، بل جينا أناني لا يحتمل تبديل جغرافيته فيتحول نحو حالات غريبة، ويصبح من السهولة أن يعتقد أن الجلوس خلف علم سيجعله قادرا على "التعبير السوري"....

في سورية حرب حقيقية من أجل الجغرافية بكل ما تحمله من حيوية الحياة، وإمكانيات صناعة المستقبل، وكل ما عدا ذلك هو خروج عن المعقول والحقيقة.