بالتأكيد فإن "التجويع" ليس تقنية مستحدثة في الصراعات، لكنه في الأزمة السورية يشكل خروجا عن المألوف لا يتم فيه استهداف الحاضر السوري بل يهدف إلى خلق استباق في إدارة الأزمة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها الإقليمين، فما يحدث في سورية لا يملك مقاربة مع الحصار الذي طبق على العراق أو ليبيا أو حتى يوغوسلافيا، ففي تلك الدول كان الحصار يستهدف إنهاء الصراع عبر إرهاق النظام الحاكم حسب تعبيرهم، وهو يتلاقى مع العقوبات الاقتصادية المطبقة اليوم على سورية، لكن عملية الخنق الاقتصادي والتجويع الحالية تذهب أبعد من الإنهاك كخطو لإسقاط النظام، فهي تملك بعدا يمكن أن يغير البنية الثقافية السورية وبالتالي الانتهاء من الواقع الجيوبولتيكي لسورية.

الصراع الحالي هو نمط هو من الحروب اللامتوازية ينهي الحالة "الرديكالية" السورية منذ ظهور سورية ككيان سياسي في العصر الحديث، فما جرى ويجري الآن أعاد النظر بالمجتمع السوري وفق ثلاث معايير:

 مجتمع مهجر أو لاجئ يصعب عودته إلى حالة التوازن بالمستقبل القريب، فالواقع الاقتصادي للمجتمع السوري لا يغير فقط سلوكه الاقتصادي بل أيضا رؤيته لنفسه على الأخص مع امتداد التهجير والمعاناة، فما يعيشه المجتمع السوري ليس قسوة "المجاعات" التقليدية، بل سحب خصائصه التي أنتجت بُنى سياسية رغم كل ما مر به منذ بداية القرن الماضي وحتى اليوم، فهو مجتمع قام أساسا على وعي تاريخي – جغرافي لموقعه الذي رسم له موقعه ككتلة ثقافية، يستند إليها الشرق الأوسط كعامل أساسي في توازنه.

 مجتمع يفقد بشكل تدريجي "الهوية الاقتصادية"، فما يحدث لا يرتبط فقط بإيقاف العملية الانتاجية، إنما يطال سلوك الفرد الاقتصادي الذي يعتمد اليوم في بقائه على الإعانات، بينما أصبح وجوده جزءا من الكارثة الإنسانية، وما يحدث ضمن عملية التجويع هي سحب قدرة البناء الذاتي بالنسبة للأفراد والمجموعات، ووضعها ضمن إطار أكبر وأشمل من المفترض أن تضعه المجموعات الدولية عندما تتفق على وقف الصراع.

 تستند الرؤية السياسية لسورية إلى سلسلة تاريخية ابتداء من "العقد التجارية" في المراحل التاريخية القديمة، وصولا إلى ربط الاقتصاد بالعوامل السياسية التي تقوم عليها سورية كمجتمع ودولة، وفي هذه النقطة في الذات فإن التدمير الاقتصادي يؤخر النمو وربما يدخل البلد في حالة إفقار، إلى أن خوض الصراع السياسي من أجل تحويل كافة البنى الاقتصادية وتصفية الشكل الإنتاجي السوري سيؤدي في النهاية إلى تحول حتى في السلوك السياسي على المستوي البعيد.

الحرب الاقتصادية اليوم لا تملك جبهة واحدة، فيها تتحول وفق ظاهرة لا نمطية تنتهي عند نقطة التحول داخل سورية إلى مجتمع هامشي وقابل إلى القفز نحو عتبة ثقافية جديدة مختلفة كليا عن هذا المجتمع الذي انتج النظريات السياسية للمنطقة، وخاض معارك الاستقلال، فهذه الجغرافية السياسية تخضع اليوم لأقسى محاولات التهشيم عبر الصراع الاقتصادي داخلها وعمليات التجويع التي من المفترض أن تدخل سورية في نطاق مختلف كليا.