السيد الرئيس، السيد الأمين العام، الإخوة المندوبين، السيدات والسادة: في كل عام نجتمع معًا لنجدد تأكيد رؤية المؤسسين لهذه الهيئة. فعلى مدى التاريخ المسجل، كانت طموحات الأفراد تخضع لأهواء الطغاة والأباطرة. وكانت تسوية الانقسامات القائمة على العرق والدين والقبيلة تسوى بحد السيف وبالاشتباك بين الجيوش. وكانت فكرة أن الأمم والشعوب يمكن أن تجتمع معًا في سلام لتسوية خلافاتها ودفع عجلة الرخاء المشترك إلى الأمام تبدو ضربًا من ضروب الخيال.

واستغرق الأمر مذبحة فظيعة في حربين عالميتين حتى تسنى تحويل تفكيرنا. ولم يكن القادة الذين بنوا الأمم المتحدة سذّجا، فإنهم لم يعتقدوا أن هذه الهيئة يمكنها القضاء على كل الحروب. ولكنهم في أعقاب تلك الملايين من القتلى وتلك القارات التي أضحت أطلالا، ومع تطور الأسلحة النووية القادرة على أن تفني كوكبًا بأكمله، أدركوا أن البشرية لا يمكنها أن تستمر في البقاء إن ظلت على الدرب التي كانت عليه. ولذلك فقد أسسوا لنا هذه الهيئة، إيمانًا منهم بأنها قد تسمح لنا بحل النزاعات، وفرض قواعد السلوك، وبناء تقاليد وعادات التعاون التي من شأنها أن تزداد قوة مع مرور الزمن.

وعلى مدى عقود، أحدثت الأمم المتحدة في الواقع فرقًا- من المساعدة في القضاء على المرض، إلى تعليم الأطفال، إلى التوسط في إحلال السلام. ولكن شأننا شأن كل جيل من الزعماء، فإننا نواجه تحديات جديدة وعميقة، وهذه الهيئة ما زالت تُختبر. والسؤال هو ما إذا كنا نمتلك الحكمة والشجاعة، كأمم ودول وأعضاء في الأسرة الدولية، لمواجهة هذه التحديات مباشرة؛ وما إذا كانت الأمم المتحدة يمكنها أن تلبي اختبارات عصرنا الراهن.

وفي معظم سنوات فترة ولايتي كرئيس، تمحورت بعض التحديات الأكثر إلحاحا التي نواجهها حول قيام اقتصاد عالمي متكامل بصورة متزايدة، وحول الجهود التي نبذلها للخروج من أسوأ أزمة اقتصادية نشهدها في حياتنا. والآن، وقد مضت خمس سنوات بعد أن انهار الاقتصاد العالمي، وبفضل الجهود المنسقة من جانب البلدان الممثلة هنا اليوم، أصبح يتم توفير الوظائف وفرص العمل، وقد استقرت النظم المالية العالمية، ومرة أخرى أصبح يجري انتشال الناس من براثن الفقر. غير أن هذا التقدم لا يزال هشًا وغير متكافئ، ولا يزال أمامنا الكثير من العمل الذي ينبغي القيام به معًا لضمان أن يتمكن مواطنونا من الوصول إلى الفرص التي يحتاجون إليها لتحقيق الرخاء والازدهار في القرن الحادي والعشرين.

ومعًا، عملنا أيضًا من أجل إنهاء عقد من الحروب. فقبل خمس سنوات، كان ما يقرب من 180 ألف أميركي يخدمون في طريق الأذى وكانت الحرب في العراق القضية المهيمنة في علاقتنا مع بقية دول العالم. أما اليوم فقد غادرت كل قواتنا العراق. وفي العام المقبل، سوف ينهي التحالف الدولي حربه في أفغانستان، بعد أن تحققت المهمة المتمثلة في تفكيك العناصر الجوهرية لتنظيم القاعدة الذي هاجم الولايات المتحدة في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن هذه الظروف الجديدة تعني أيضا التحول بعيدًا عن حالة الحرب الدائمة. وأكثر من إعادة قواتنا إلى أرض الوطن، فقد قلّلنا من استخدام الطائرات بدون طيار بحيث تستهدف فقط أولئك الذين يشكلون تهديدًا مستمرًا ووشيكًا للولايات المتحدة حين لا يكون من الممكن القبض عليه، وحين يكون هناك يقين شبه مؤكد من عدم حدوث إصابات بين المدنيين. ونحن الآن بصدد نقل المعتقلين إلى بلدان أخرى ومحاكمة الإرهابيين في المحاكم العادية، بينما نعمل جاهدين على إغلاق السجن الموجود في خليج غوانتانامو. ومثلما أجرينا مراجعة لكيفية نشر القدرات العسكرية الاستثنائية لدينا بطريقة ترقى إلى مستوى قيمنا، فقد بدأنا إعادة النظر في الطريقة التي يتم بها جمع المعلومات الاستخبارية، حتى يتسنى لنا تحقيق الموازنة بشكل صحيح بين المخاوف الأمنية المشروعة لمواطنينا وحلفائنا وبين العوامل المثيرة للقلق فيما يتعلق بالمحافظة على الخصوصية التي يتقاسمها كل الناس.

ونتيجة لهذا الجهد، والتعاون مع الحلفاء والشركاء، فقد بات العالم أكثر استقرارًا مما كان عليه قبل خمس سنوات. ولكن حتى مجرد نظرة خاطفة على عناوين الصحف اليوم يشير إلى أن الأخطار ما زالت قائمة. ففي كينيا، شاهدنا الإرهابيين يستهدفون المدنيين الأبرياء في مركز تجاري مزدحم، وقلوبنا مع أسر أولئك الذين تضرروا بفعل ذلك. وفي باكستان، قُتل ما يقرب من 100 شخص مؤخرًا على يد انتحاريين أمام كنيسة. وفي العراق، لا تزال عمليات القتل والسيارات المفخخة تشكل جزءًا رهيبًا من الحياة اليومية. وفي الوقت نفسه، تقسم تنظيم القاعدة إلى شبكات وميليشيات، ومع أن هذا لا يعطيهم القدرة في هذه المرحلة على تنفيذ هجمات مماثلة لهجمات 11/9، ولكنه يشكل تهديدًا خطيرًا للحكومات والدبلوماسيين، ومشروعات الأعمال التجارية والمدنيين في جميع أنحاء العالم.

وعلى القدر نفسه من الأهمية، فقد خلقت الاضطرابات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انقسامات عميقة داخل المجتمعات، كما قلبت الأمور على النظام القديم وأصبح الناس يصارعون مع ما تأتي به الأيام. وقد تم في كثير من الأحيان الرد على الحركات السلمية بالعنف- من جانب أولئك الذين يقاومون التغيير ومن جانب المتطرفين الذين يحاولون اختطاف التغيير. وبرز الصراع الطائفي. ولا يزال احتمال انتشار أسلحة الدمار الشامل يلقي بظلاله على السعي لتحقيق السلام .

ولم نشهد في أي مكان آخر هذه الاتجاهات تلتقي بقوة أكثر مما يحدث في سوريا. فهناك، قوبلت الاحتجاجات السلمية ضد نظام استبدادي بالقمع والذبح. وفي مواجهة مثل هذه المذبحة، تراجع الكثيرون صوب هويتهم الطائفية- العلوية والسنية؛ والمسيحية والكردية- وتحولت الحالة إلى حرب أهلية.

وقد أدرك المجتمع الدولي المخاطر في وقت مبكر، ولكن استجابتنا لم يكن بحجم التحدي. إذ إن المساعدات لا يمكنها مواكبة معاناة الجرحى والمشردين. وعملية السلام أجهضت. وقد عملت أميركا وغيرها على دعم المعارضة المعتدلة، ولكن المجموعات المتطرفة لا تزال تسعى لاستغلال الأزمة. والحلفاء التقليديون للأسد ما فتئوا يدعمونه، متذرعين بمبادئ السيادة لحماية نظامه. وفي 21 آب/أغسطس، استخدم النظام الأسلحة الكيماوية في هجوم أودى بحياة أكثر من ألف شخص، بما في ذلك مئات الأطفال.

وهكذا، فإن الأزمة في سوريا، وزعزعة الاستقرار في المنطقة، يصبان في صميم التحديات الأوسع نطاقًا التي يجب أن يتصدى لها المجتمع الدولي الآن. فكيف ينبغي أن نستجيب للصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- الصراعات الدائرة فيما بين البلدان، ولكن أيضًا الصراعات داخلها؟ كيف نعالج خيار الوقوف جانبًا في قسوة، بينما يتعرض الأطفال لغاز الأعصاب، أو نورط أنفسنا في حرب أهلية تخص طرفًا آخر؟ ما هو دور القوة في حل النزاعات التي تهدد استقرار المنطقة وتقوض جميع المعايير الأساسية للسلوك المتحضر؟ ما هو دور الأمم المتحدة والقانون الدولي في الاستجابة للصيحات المطالبة بتحقيق العدالة؟

وإنني اليوم، أود أن أحدد الخطوط العريضة لموقف الولايات المتحدة الأميركية من هذه القضايا. فيما يتعلق بسوريا، فإننا نعتقد أن المجتمع الدولي، كنقطة انطلاق، يجب أن يفرض تنفيذ الحظر المفروض على الأسلحة الكيميائية. وعندما أعلنت عن استعدادي للقيام بتوجيه ضربة محدودة ضد نظام الأسد ردًا على الاستخدام الوقح للأسلحة الكيميائية، لم أفعل ذلك باستخفاف. لقد فعلت ذلك لأنني أؤمن بأن من مصلحة أمن الولايات المتحدة ومصلحة العالم القيام بفرض جاد لحظر تعود أصوله إلى عهد أقدم من الأمم المتحدة نفسها. فقد وافقت 98 في المائة من البشرية على الحظر المفروض على استخدام الأسلحة الكيميائية، حتى في الحرب. إن ذلك يتعزز بالذكريات المؤلمة للجنود الذين كانوا يعانون في الخنادق؛ واليهود الذين ذبحوا في غرف الغاز؛ والإيرانيين الذين تعرض عشرات الآلاف منهم لهجمات بالغاز السام.

وهناك أدلة ساحقة على أن نظام الأسد استخدم هذه الأسلحة في 21 آب/أغسطس. وقدم مفتشو الأمم المتحدة تقارير واضحة أن صواريخ متقدمة أطلقت كميات كبيرة من غاز السارين ضد المدنيين. وقد أطلقت هذه الصواريخ من حي يسيطر عليه النظام، وسقطت في الأحياء الواقعة تحت سيطرة المعارضة. إنها إهانة للعقل البشري- ولشرعية هذه المؤسسة- أن يتم الإيحاء بأن أي شخص آخر غير النظام قد نفذ هذا الهجوم.

وهكذا، فإنني أعلم أنه في أعقاب الهجوم كان هناك من شكك بشرعية القيام حتى بضربة محدودة في غياب تفويض واضح من مجلس الأمن. ولكن بدون التهديد العسكري الموثوق به، لم يظهر مجلس الأمن أية رغبة في القيام بعمل على الإطلاق. ومع ذلك، وكما ناقشت مع الرئيس بوتين على مدى أكثر من سنة، كان آخرها في سانت بطرسبرغ، فإنني أحبذ على الدوام إيجاد حل دبلوماسي لهذه المسألة. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، توصلت الولايات المتحدة وروسيا وحلفاؤنا إلى اتفاق لوضع الأسلحة الكيميائية في سوريا تحت الرقابة الدولية، ثم تدميرها.

وقد اتخذت الحكومة السورية الخطوة الأولى بتقديم بيانات بمخزوناتها. والآن يجب أن يكون هناك قرار قوي من مجلس الأمن للتحقق من أن نظام الأسد يفي بالتزاماته، ويجب أن تكون هناك عواقب إذا فشل في القيام بذلك. وإذا لم نتمكن من الاتفاق حتى على هذا، عندها سوف يدلل ذلك على أن الأمم المتحدة غير قادرة على فرض أبسط القوانين الدولية. ومن ناحية أخرى، فإننا إذا ما نجحنا، فإننا سوف نبعث برسالة قوية مفادها أن استخدام الأسلحة الكيميائية لا مكان له في القرن الحادي والعشرين، وأن هذه المنظمة تعني ما تقول.

وينبغي أن ينشط الاتفاق بشأن الأسلحة الكيميائية بذل جهد دبلوماسي أكبر للتوصل إلى تسوية سياسية داخل سوريا. إنني لا أعتقد أن العمل العسكري- من قبل الأشخاص الموجودين داخل سوريا، أو من قبل القوى الخارجية- يمكن أن يحقق السلام الدائم. كما أنني لا أعتقد أن أميركا أو أية دولة أخرى ينبغي أن تقرر من سيقود سوريا؛ فهذا أمر يقرره الشعب السوري. ومع ذلك، لا يمكن لزعيم يذبح المواطنين ويخنق الأطفال بالغاز أن يستعيد شرعيته لقيادة بلد تمزقت أوصاله. والفكرة القائلة بأن سوريا يمكن أن تعود بطريقة ما إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل الحرب هو ضرب من الخيال.

لقد حان الوقت لروسيا وإيران أن تدركا أن الإصرار على التمسك بحكم الأسد من شأنه أن يؤدي مباشرة إلى النتيجة التي كانوا يخشونها: توفير مساحة عنيفة على نحو متزايد للمتطرفين للعمل. وفي المقابل، يجب على الذين يواصلون دعم المعارضة المعتدلة، من بيننا، إقناعها بأن الشعب السوري لا يمكن أن يتحمل انهيار مؤسسات الدولة، وأنه لا يمكن التوصل إلى تسوية سياسية دون معالجة المخاوف المشروعة والعوامل المثيرة للقلق لدى العلويين والأقليات الأخرى.

ونحن ملتزمون بالعمل على هذا المسار السياسي. وفي الوقت الذي نسعى فيه إلى التوصل إلى تسوية، دعونا نتذكر أن هذا المسعى ليس مسعى محصلته صفرية (أي طرف يفوز بكل شيء، وطرف آخر لا يفوز بأي شيء). إننا لم نعد في حقبة الحرب الباردة. لا توجد هناك لعبة كبيرة يجب الفوز فيها، ولا توجد مصلحة لأميركا في سوريا تتجاوز رفاهية شعبها، والاستقرار في الدول المجاورة لها، والقضاء على الأسلحة الكيميائية، وضمان ألا تصبح ملاذا آمنًا للإرهابيين.

وإنني أرحب بالعناصر المؤثرة من جميع الدول التي يمكن أن تساعد في التوصل إلى حل سلمي للحرب الأهلية في سوريا. وبينما نمضي قدما في عملية جنيف، فإنني أحث جميع الدول الموجودة هنا على أن تسارع إلى تلبية الاحتياجات الإنسانية في سوريا والبلدان المحيطة بها. وقد تعهدت أميركا بتقديم أكثر من بليون دولار لهذا الجهد، واليوم يمكنني أن أعلن أننا سوف نوفر مبلغًا إضافيًا قدره 340 مليون دولار. لا يمكن أن تحل المعونات محل القرار السياسي الذي يعطي لأبناء الشعب السوري فرصة لإعادة بناء بلدهم، ولكن يمكنها أن تساعد اليائسين على البقاء على قيد الحياة.

إذن ما هي الاستنتاجات الأعم التي يمكن استخلاصها من سياسة أميركا تجاه سوريا؟ أنا أعلم أن هناك أولئك الذين أصيبوا بالإحباط نتيجة لعدم رغبتنا في استخدام قوتنا العسكرية لإزاحة الأسد. وهم يعتقدون أن الامتناع عن فعل ذلك إنما هو مؤشر على ضعف عزم أميركا في المنطقة. بيد أن آخرين قالوا إن حتى رغبتي في إصدار توجيه بالقيام بضربات عسكرية محدودة يكون هدفها منع استخدام الأسلحة الكيميائية مرة أخرى، يبين أننا لم نتعلم أية دروس من تجربة العراق، وأن أميركا ما زالت تسعى للسيطرة على الشرق الأوسط لتحقيق مآربنا الخاصة. وبهذه الطريقة فإن الوضع في سوريا يعكس تناقضًا متواصلا في المنطقة لعقود من الزمن وهو أن الولايات المتحدة تعاقب لتدخلها في شؤون المنطقة وتتهم بأن لها اليد الطولى في جميع أنواع الدسائس، لكن في الوقت عينه تلام بسبب إحجامها عن عمل ما يكفي لحل مشاكل المنطقة ولإظهارها عدم الاكتراث تجاه معاناة شعوب المنطقة المسلمة.

وإنني مدرك أن تفكيرًا من هذا القبيل أمر لا يمكن تفاديه- في ضوء دور أميركا في العالم. بيد أن هذه المواقف المتناقضة تخلف أثرًا من الناحية العملية على دعم الشعب الأميركي لمشاركتنا في المنطقة وتتيح لزعماء في المنطقة، وكذلك في المجتمع الدولي أحيانًا، أن يتجنبوا مواجهة المشاكل العسيرة بأنفسهم.

إذن، دعوني في هذه المناسبة أغتنم الفرصة لتحديد ملامح السياسة الأميركية التي انتهجناها حيال الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما ستكون طبيعة سياستي خلال ما تبقى من ولايتي الرئاسية:

إن الولايات المتحدة الأميركية جاهزة لتوظيف جميع عناصر قوتنا، بما في ذلك القوة العسكرية، لتأمين مصالحنا الأساسية في المنطقة.

ونحن سنتصدى للعدوان الخارجي على حلفائنا وشركائنا، كما فعلنا في حرب الخليج.

وسنضمن الانسياب الحر للطاقة من المنطقة إلى العالم. ورغم أن أميركا تعمل باضطراد على خفض اعتمادنا نحن على النفط المستورد، فإن العالم ما زال يعوّل على إمدادات الطاقة من المنطقة، وإن أي تعطيل حاد يمكن أن يزعزع استقرار الاقتصاد العالمي كله.

وسنعمل على تفكيك الشبكات الإرهابية التي تهدد شعبنا. وأينما كان ذلك ممكنًا، سنبني قدرات وطاقات شركائنا وسنحترم سيادة الأمم وسنعمل من أجل التعامل مع الأسباب الجذرية للإرهاب. لكن حينما يكون من الضروري الدفاع عن الولايات المتحدة في وجه هجوم إرهابي، فإننا سنتخذ إجراء مباشرًا.

أخيرًا، إننا لن نتساهل حيال تطوير أو استخدام أسلحة دمار شامل. ومثلما نعتبر استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا تهديدًا لأمننا القومي الخاص، فإننا نرفض تطوير أسلحة نووية بحيث يمكن أن يطلق العنان لسباق أسلحة نووية في المنطقة وأن يقوض نظام منع الانتشار في العالم.

والآن، فأن يقال إن تلك هي مصالح أميركا الأساسية لا يعني أن هذه هي مصالحنا الوحيدة. إننا نؤمن أن من بين مصالحنا أن نرى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة سلمية ومزدهرة وسنواصل الدعوة إلى مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والأسواق المفتوحة، لأننا نرى أن هذه الممارسات تحقق السلام والرخاء. لكنني أعتبر كذلك أنه نادرًا ما نستطيع تحقيق هذه الأهداف من خلال إجراء أميركي أحادي، وبوجه خاص من خلال إجراء عسكري. وقد بين لنا العراق أن الديمقراطية لا يمكن ببساطة فرضها بالقوة. إنما أفضل وسيلة لتحقيق هذه الأهداف تكون حينما نتشارك مع المجتمع الدولي ومع بلدان وشعوب المنطقة.

إذن، ما الذي يعنيه ذلك ونحن نمضي للأمام؟ على المدى القصير، فإن مساعي أميركا الدبلوماسية ستتركز على مسألتين محددتين: سعي إيران للحصول على الأسلحة النووية، والنزاع العربي-الإسرائيلي. وفي حين أن هاتين المسألتين ليستا السبب وراء كافة مشاكل المنطقة، فقد كانتا مصدرًا رئيسيًا لعدم الاستقرار لفترة طويلة جدًا وتسويتهما يمكن أن تسهم في أن تكون أساسًا لتحقيق سلام أوسع نطاقًا.

كانت هناك حالة عزلة بين الولايات المتحدة وإيران، منذ اندلاع الثورة الإسلامية في 1979. وانعدام الثقة هذا له جذور عميقة. إذ طالما اشتكى الإيرانيون من التاريخ الطويل للتدخل الأميركي في شؤونهم ودور أميركا في الإطاحة بحكومة إيرانية خلال الحرب الباردة. من ناحية ثانية، يرى الأميركيون أن في طهران حكومة إيرانية أعلنت الولايات المتحدة عدوًا واحتجزت، مباشرة أو عن طريق عملاء، رهائن أميركيين وفتكت بعسكريين ومدنيين أميركيين، وهددت حليفنا إسرائيل بالفناء.

وأنا لا أعتقد أن هذا التاريخ العسير يمكن تجاوزه بين ليلة وضحاها. فالشكوك عميقة جدًا، لكنني أؤمن بأننا إذا استطعنا حل قضية برنامج إيران النووي، فإن من شأن ذلك أن يشكل خطوة كبيرة في الطريق الطويل نحو علاقة مختلفة، علاقة ترتكز على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل.

ومنذ تسلمي منصبي أوضحت في خطابات إلى الزعيم الأعلى في إيران ومؤخرًا إلى الرئيس روحاني، أن أميركا تحبذ تبديد دواعي قلقها بخصوص برنامج إيران النووي سلميًا، رغم أننا عازمون على منع إيران من تطوير سلاح نووي. فنحن لا نسعى لتغيير النظام ونحن نحترم حق الشعب الإيراني في أن تكون لديه طاقة نووية لأغراض سلمية. وعوضًا عن ذلك، فإننا نصر على أن تفي حكومة إيران بمسؤولياتها بمقتضى معاهدة منع الانتشار النووي وقرارات مجلس الأمن الدولي.

في غضون ذلك، أصدر الزعيم الأعلى فتوى ضد تطوير الأسلحة النووية فيما كرر الرئيس روحاني مؤخرًا أن الجمهورية الإسلامية لن تطور أبدًا سلاحًا نوويا.

لذا، فإن هذه البيانات التي صدرت عن حكومتينا يجب أن تشكل الأساس لاتفاقية ذات معنى. ويتعين علينا أن نكون قادرين على تحقيق تسوية تحترم حقوق الشعب الإيراني وفي الوقت ذاته تمنح العالم الثقة في أن البرنامج الإيراني ذو طبيعة سلمية. لكن من أجل تحقيق النجاح، فإن عبارات الاسترضاء يجب أن تقابلها أفعال شفافة ويمكن التثبت من صحتها. وبعد كل شيء، فإن خيارات الحكومة الإيرانية هي التي أدت إلى العقوبات الشاملة المعمول بها حاليًا. وهذه ليست مجرد قضية قائمة بين الولايات المتحدة وإيران؛ فقد شاهد العالم إيران وهي تتملص من مسؤولياتها في الماضي، ولدى العالم مصلحة فعلية في التأكد من أن إيران ستفي بالتزاماتها مستقبلا.

لكن في هذا السياق، أود أن أكون واضحًا. إننا متفائلون من أن الرئيس روحاني حاز على تفويض من الشعب الإيراني باتباع مسار أكثر اعتدالا. وفي ضوء التزام الرئيس روحاني المعلن بالوصول إلى اتفاق، فقد أصدرت توجيهاتي لجون كيري بأن يتابع هذا المسعى مع حكومة إيران بالتعاون الوثيق مع الاتحاد الأوروبي— بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا والصين.

وقد يتبين أن العثرات على الطريق جسيمة لكنني أؤمن بشدة بأنه ينبغي تجربة المسار الدبلوماسي. ذلك أنه في حين أن الوضع القائم سيؤدي فقط إلى تعميق عزلة إيران فإن تعهد إيران الحقيقي باتخاذ مسار مختلف سيعود بالخير على المنطقة وعلى العالم وسيساعد الشعب الإيراني على تحقيق إمكاناته المدهشة- في مجالات التجارة والثقافة وفي العلوم والتعليم.

ونحن عازمون كذلك على تسوية نزاع يعود إلى الوراء أبعد من خلافاتنا مع إيران، وهو الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وإنني أوضحت أن الولايات المتحدة لن تساوم أبدًا على التزاماتنا بأمن إسرائيل ولا على دعمنا لوجود دولة يهودية. وفي وقت سابق من هذا العام في القدس ألهمني إسرائيليون من صغار السن ممن أيدوا الاعتقاد بأن السلام ضروري وعادل وممكن. وإنني أعتقد أن هناك إدراكًا متزايدًا داخل إسرائيل لأن احتلال الضفة الغربية ينهش النسيج الديمقراطي للدولة اليهودية. لكن لأبناء إسرائيل الحق في العيش في عالم تعترف كل الأمم المجتمعة هنا في هذه الهيئة الدولية ببلدهم اعترافًا كاملا، وحيث نرفض بصورة لا لبس فيها أولئك الذين يطلقون صواريخ على منازلهم أو يحرضون الآخرين على كراهيتهم.

وبالمثل، ما زالت الولايات المتحدة عند اعتقادها بأن للشعب الفلسطيني الحق في العيش بأمان وبعزة في دولته ذات السيادة. وفي تلك الجولة نفسها، سنحت لي الفرصة للقاء فلسطينيين صغار في رام الله قابل طموحاتهم وإمكاناتهم الباهرة ألم كانوا يشعرون به بسبب افتقادهم لمكان مستقر بين مجموعة الأمم. وهم متشائمون من إحراز تقدم حقيقي في أي وقت، وهم محبطون من رؤية أسرهم تتحمل المهانة اليومية للاحتلال. لكنهم يسلمون أن قيام الدولتين هو المسار الحقيقي الوحيد الذي يقود إلى السلام- لأنه مثلما ينبغي عدم تشريد الشعب الفلسطيني، فإن دولة إسرائيل وجدت لتبقى.

إذن، فالآن هو الوقت المناسب لكل الأسرة الدولية كي تدعم السعي للسلام. وقد أظهر، بالفعل، القادة الفلسطينيون والإسرائيليون استعدادًا للقيام بمجازفات سياسية هامة. فقد نحّى الرئيس عباس جانبًا عددًا من الجهود من أجل اختصار طريق السعي نحو السلام، وقرر الحضور إلى طاولة المفاوضات، فيما أفرج رئيس الوزراء نتنياهو عن أسرى فلسطينيين وأكد التزامه بوجود دولة فلسطينية. وتتمحور المحادثات الراهنة على قضايا الوضع النهائي للحدود والأمن واللاجئين والقدس.

لذلك، ينبغي على بقيتنا أن نكون على استعداد للمجازفة أيضًا. وأصدقاء إسرائيل بما فيهم الولايات المتحدة، عليهم أن يعترفوا بأن أمن إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية يعتمد على تحقيق قيام دولة فلسطينية وعلينا أن نشهر ذلك بكل جلاء. والدول العربية وتلك التي ساندت الفلسطينيين يجب أن تدرك بأن الاستقرار سيتحقق فقط من خلال الحل القائم على أساس الدولتين، وأن تكون إسرائيل آمنة.

وعلينا جميعًا أن نعترف بأن السلام سيكون الأداة القوية لإلحاق الهزيمة بالمتطرفين في جميع أرجاء المنطقة وتشجيع أولئك المستعدين لبناء مستقبل أفضل. إضافة إلى ذلك، فإن العلاقات التجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين يمكن أن تشكل محركًا للنمو والفرص في زمن يقبع فيه الكثيرون من شباب المنطقة بلا عمل. إذن، دعونا نخرج من الأركان المعتادة للتحيز واللوم. ولنساند القادة الفلسطينيين والإسرائيليين المستعدين للسير في الطريق الوعرة نحو السلام.

إن الاختراقات الحقيقية في هاتين القضيتين- برنامج إيران النووي، والسلام الفلسطيني الإسرائيلي- ستكون لها آثار إيجابية وعميقة على كل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. بيد أن الاضطرابات الراهنة الناتجة عن الربيع العربي تذكرنا بأن سلامًا عادلا ودائمًا لا يمكن قياسه بمجرد الاتفاقات بين الدول. إنما يجب أن يقاس من خلال قدرتنا على تسوية النزاعات وإشاعة العدل بين الأمم. وبهذا المقياس يتضح لنا جميعًا أن أمامنا قدرًا أكبر من العمل لإتمامه.

وحينما بدأت التحولات السلمية في تونس ومصر، كان العالم بأسره مفعمًا بالأمل. ورغم أن الولايات المتحدة، شأنها شأن غيرها، ذهلت بفعل سرعة التحولات، ورغم أننا لم نمل- وفي الحقيقة لم يكن من المكن إملاء- الأحداث، اخترنا أن ندعم أولئك الذين كانوا ينادون بالتغيير. وقد فعلنا ذلك بناء على قناعة بأنه في حين ستكون هذه التحولات عسيرة وستستغرق وقتًا، فإن المجتمعات القائمة على ركائز الديمقراطية والانفتاح وكرامة الفرد ستنعم في نهاية المطاف باستقرار أكثر وستكون أكثر رخاء وأكثر سلامًا.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية لا سيما في مصر شاهدنا كم سيكون صعبًا ذلك التحول. فقد انتخب محمد مرسي ديمقراطيًا لكنه أثبت أنه غير راغب أو غير قادر على الحكم بطريقة تضم جميع الأطياف. والحكومة المؤقتة التي حلّت محله استجابة لرغبات ملايين المصريين ممن كانوا يؤمنون بأن الثورة اتخذت منحى خاطئا، لكن هذه الحكومة هي أيضًا اتخذت قرارات لا تتفق مع الديمقراطية الشاملة- بتبنيها قانون طوارئ وفرضها قيودًا على الإعلام والمجتمع المدني وأحزاب المعارضة.

وبالطبع فإن أميركا تعرضت لهجمات من جميع الأطراف في هذا النزاع الداخلي؛ ففي آن واحد اتّهمت بدعمها للإخوان المسلمين وبتدبير إبعادهم عن السلطة. والواقع أن الولايات المتحدة تجنبت عن قصد الانحياز إلى أي طرف. ولا يزال اهتمامنا الطاغي طيلة هذه السنوات القليلة الماضية هو تشجيع قيام حكومة تجسد بصورة مشروعة إرادة الشعب المصري، وتقر بأن الديمقراطية الحقيقية تستوجب احترام حقوق الأقليات وسيادة القانون وحرية الرأي والتعبير والتجمع، وقيام مجتمع مدني قوي.

ويظل هذا محور اهتمامنا اليوم. إذن، ستواصل الولايات المتحدة، في مضيها قدمًا، علاقة بناءة مع الحكومة الانتقالية، فيما تدعم المصالح الجوهرية مثل اتفاقيات كامب ديفيد ومكافحة الإرهاب. وسنواصل دعمنا في مجالات مثل التعليم، تعود بالفائدة مباشرة على الشعب المصري. غير أننا لم نمض في تسليم أنظمة عسكرية معينة، كما أن دعمنا سيتوقف على مدى تقدم مصر في السعي على الطريق الديمقراطي.

إن نهجنا حيال مصر يجسد نقطة أوسع: فالولايات المتحدة ستعمل أحيانًا مع حكومات لا تلبي، على الأقل من وجهة نظرنا، أعلى التوقعات الدولية، ولكنها تعمل معنا في مضمار مصالحنا الجوهرية. ومع ذلك، فنحن لن نكف عن تأكيد المبادئ التي تتناغم مع مُثُلنا، سواء كان ذلك يعني مناهضة استخدام العنف كوسيلة لقمع المعارضة، أو مؤازرة المبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

إننا سنرفض الفكرة القائلة بأن هذه المبادئ ليست سوى صادرات غربية لا تتوافق مع الإسلام أو العالم العربي. إننا نؤمن بأن هذه المبادئ هي حق مكتسب بالمولد لكل إنسان. ولئن أدركنا أن نفوذنا سيكون محدودًا في بعض الأحيان، فإننا سنلتزم جانب الحذر إزاء الجهود الرامية إلى فرض الديمقراطية بالقوة العسكرية. ورغم أننا سنتّهم أحيانًا بالنفاق والازدواجية والكيل بمكيالين، فإننا سوف ننخرط في المنطقة على الأمد الطويل. ذلك أن العمل الشاق من أجل نشوء الحرية والديمقراطية هو مهمة جيل بأكمله.

وهذا يشمل المساعي الرامية إلى تسوية التوترات الطائفية التي تواصل الظهور في أماكن مثل العراق والبحرين وسوريا. نحن نتفهم أن مثل هذه القضايا المزمنة لا يتأتى للأطراف الخارجية أن تحلها؛ بل ينبغي على المجتمعات الإسلامية نفسها أن تعالجها. غير أننا شهدنا في الماضي نهاية نزاعات طاحنة- كان آخرها في أيرلندا الشمالية حيث أدرك الكاثوليك والبروتستانت في نهاية المطاف أن دورة لا نهاية لها من الصراع كانت تجعل كلتا الطائفتين تتخلّف عن ركب عالم متسارع الخطى. ولذلك نحن نؤمن أن مثل هذه النزاعات الطائفية يمكن تذليلها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وخلاصة القول هي أن الولايات المتحدة تعلمت درسًا شاقًا من التواضع حينما يتعلق الأمر بقدرتنا على تقرير الأحداث داخل دول أخرى. قد تكون فكرة الإمبراطورية الأميركية دعاية مفيدة، ولكنها دعاية لا تثبت صحتها السياسة الأميركية الراهنة ولا الرأي العام. والواقع أن ما أظهرته المجادلات الأخيرة بوضوح داخل الولايات المتحدة حول سوريا هو أن الخطر على العالم لا يتمثل في أن أميركا متلهفة على الانغماس في شؤون الدول الأخرى أو الانكباب على كل قضية في المنطقة كما لو أنها قضيتها الخاصة... إنما الخطر على العالم هو أن تبتعد الولايات المتحدة بعد عقد من الحروب- وانشغالها عن حق بقضاياها الداخلية، مع إدراكها للعداوة التي ولّدها دورنا في المنطقة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي؛ إذ من شأن ذلك أن يولّد فراغًا في القيادة ليست هناك دولة أخرى على استعداد لملئه.

وفي اعتقادي أن مثل هذا الانفصال سيكون غلطة. في اعتقادي أن على أميركا أن تظل منخرطة من أجل أمننا نحن. ولكنني أرى أيضًا أن العالم سيكون أفضل بذلك. صحيح أن هناك من يخالفني الرأي؛ ولكنني مقتنع بأن أميركا حالة استثنائية- ومرد ذلك جزئيًا أننا أظهرنا استعدادًا لبذل أرواحنا وأموالنا لنصرة الآخرين ليس من أجل مصالحنا الذاتية الضيقة، بل لمصلحة الجميع.

مع ذلك، علي أن أكون صريحًا وأمينًا. من الأرجح بكثير أننا سنستثمر طاقتنا في الدول التي تريد أن تعمل معنا، والتي تستثمر في أبناء شعبها بدلا من قلة فاسدة؛ الدول التي تعتنق رؤيا مجتمع يستطيع فيه كل إنسان أن يساهم- الرجال والنساء والشيعة وأهل السنّة... المسلمون والمسيحيون واليهود. لأنه من أوروبا إلى آسيا، ومن أفريقيا إلى دول الأميركتين، نرى أن الدول التي ثابرت على طريق الديمقراطية هي التي ازدهرت وأصبحت أكثر رخاءً واستثمارًا في صون أمننا المشترك وإنسانيتنا المشتركة. وفي اعتقادي أن ذلك سيصحّ أيضًا على العالم العربي.

وهذا يقودني إلى نقطة أخيرة. ستكون هناك أوقات يصبح فيها تفكك المجتمعات من الجسامة، وممارسة العنف ضد المدنيين من الفظاعة، بحيث يطالَب المجتمع الدولي بالعمل. وهذا سيتطلب تفكيرًا جديدًا وخيارات عسيرة للغاية. ولئن قدّر للولايات المتحدة أن تمنع الحروب بين الدول، فإننا نواجه بصورة مطردة تحدي الحيلولة دون وقوع المذابح داخل الدول. وسوف تزداد هذه التحديات فيما نجابه دولا هشة أو على طريق الفشل- أماكن يتعرض فيها الرجال والنساء والأطفال إلى أعمال عنف مروعة، دونما أمل بالحماية من جانب مؤسساتهم الوطنية.

ولقد أوضحت أنه حتى عندما لا تتهدد مصالح أميركا الجوهرية مباشرة، فإننا نقف مستعدين لأداء دورنا في منع الفظائع الجماعية وحماية حقوق الإنسان الأساسية. غير أننا لا يمكننا ولا ينبغي لنا أن نتحمل هذا العبء وحدنا. في مالي، ساندنا كلا من التدخل الفرنسي الذي دحر القاعدة بنجاح، والقوات الأفريقية التي تحفظ السلام. وفي شرق أفريقيا، نعمل مع شركاء لإنهاء جيش الرب المقاوم. وفي ليبيا، حينما أجاز مجلس الأمن الدولي تفويضًا بحماية المدنيين، انضمت أميركا إلى ائتلاف هبّ للعمل. وبفضل ما فعلنا هناك، أنقذت أرواح لا تحصى، ولم يتمكن طاغية من أن يفتك ليستعيد سلطته.

أعلم أن البعض ينتقدون الإجراء في ليبيا على اعتبار أنه درس تطبيقي. ويشير هؤلاء إلى المشاكل التي تعتري الآن ذلك البلد- حكومة انتخبت ديمقراطيًا تجاهد لتوفير الأمن فيما تحكم جماعات مسلحة، وفي بعض الأماكن متطرفون، أجزاءً من أرض مهشّمة. ولذا يحاجج المنتقدون بأن أي تدخل لحماية المدنيين مصيره الفشل- انظروا إلى ليبيا. ولا أحد يضع في اعتباره هذه المشاكل أكثر مني؛ لأن هذه المشاكل أسفرت عن وفاة أربعة من ألمع المواطنين الأميركيين الذين نذروا أنفسهم لخدمة الشعب الليبي، بمن فيهم السفير كريس ستيفنس- الرجل الذي أسهمت مساعيه الباسلة في إنقاذ مدينة بنغازي. ولكن هل يظن أحد حقًا أن الوضع في ليبيا سيكون أفضل لو سُمح للقذافي بأن يقتل ويسجن وينكًل بشعبه إلى أن يستسلم؟ من الأرجح بكثير أنه لولا التدخل الدولي لكانت ليبيا تتلظى الآن في خضمّ حرب أهلية وسفك دماء.

إننا نعيش في عالم من الاختيارات البعيدة عن الكمال. الدول على اختلافها لن توافق على ضرورة العمل في كل حالة، كما أن مبدأ السيادة يكمن في صلب نظامنا الدولي. ولكن السيادة ليست درعًا للطغاة كي يرتكبوا القتل العشوائي، أو عذرًا للمجتمع الدولي كي يشيح ببصره. ولئن كنا متواضعين في اعتقادنا بأننا نستطيع إصلاح كل شر، أو متنبهين لكون العالم مثخنًا بالعواقب غير المقصودة، فهل يجب علينا أن نتقبل حقًا الفكرة بأن العالم عاجز عن مواجهة ما جرى في رواندا أو سريبرينيكا؟ وإذا كان هذا هو العالم الذي يريد الناس أن يعيشوا فيه، فليقولوا ذلك ثم يحاسبوا أنفسهم على المقابر الجماعية.

كلا. إنني أرى أننا نستطيع أن نعتنق مستقبلا مختلفًا. وإذا كنا لا نريد أن نختار بين الجمود والحرب، فعلينا-جميعنا- أن نتقن سياسة منع انهيار النظام الأساسي. ويتأتى ذلك عن طريق احترام مسؤوليات الدول وحقوق الأفراد... عن طريق فرض عقوبات على الذين ينتهكون القوانين... عن طريق الدبلوماسية المثابرة التي تسوي الأسباب الجذرية للنزاعات، وليس مجرد تداعياتها... عن طريق المساعدة الإنمائية التي تحمل الأمل للمهمّشين... ونعم أحيانًا، وإن يكن هذا ليس كافيًا- ستكون هناك لحظات يضطر فيها المجتمع الدولي إلى الاعتراف بضرورة استخدام القوة العسكرية المتعددة الأطراف للحيلولة دون وقوع الأسوأ.

وفي نهاية المطاف، هذا هو المجتمع الدولي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه... مجتمع لا تطمع فيه دولة ما في أراضي أو موارد دول أخرى، مجتمع نطبّق فيه الهدف المؤسس لهذه الهيئة، ونتحمل جميعنا المسؤولية... عالم يمكن فيه للقوانين المنبثقة من أهوال الحروب أن تساعدنا على حل النزاعات سلميًا، وأن تمنع حروبًا كتلك التي خاضها أسلافنا... عالم يستطيع فيه بنو البشر أن يعيشوا بكرامة وينالوا أبسط احتياجاتهم، سواء كانوا يعيشون في نيويورك أو نيروبي، في بيشاور أو دمشق.

إننا نعيش أيامًا استثنائية ذات فرص استثنائية. وبفضل التقدم البشري، أصبح بمقدور طفل يولد في أي مكان من العالم اليوم أن ينجز أمورًا لم تكن في متناول غالبية البشر قبل 60 عامًا. لقد شاهدت ذلك في أفريقيا حيث تتأهب دول تجاوزت النزاعات للانطلاق. وإن أميركا تقف مع هذه الدول لتشارك في إطعام الجياع والعناية بالمرضى وتوفير الطاقة الكهربائية للأماكن النائية.

إنني أشاهد ذلك عبر منطقة المحيط الهادي حيث انتشل مئات الملايين من وهدة الفقر خلال جيل واحد... أشاهد ذلك في وجوه الشباب في كل مكان ممن يجوبون العالم أجمع بكبسة على زر إلكتروني، وجميع المتلهفين على الانضمام إلى قضية محو الفقر المدقع ومكافحة تغير المناخ والشروع في شركات أعمال، وتوسيع آفاق الحرية مخلّفين وراءهم معارك الماضي العقائدية البالية. هذا ما يحدث الآن في آسيا وأفريقيا. إنه يحدث أيضًا في أوروبا وعبر دول الأميركتين. وهذا هو المستقبل الذي تستحقه أيضًا شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا... مستقبل يستطيعون فيه أن يركزوا على الفرص بدلا من التعرض للقتل أو القمع بسبب هوياتهم أو معتقداتهم.

ومرة بعد أخرى، أثبتت الأمم والشعوب أنها قادرة على التغيير... وأنها تعيش مخلصة لأسمى المثل الإنسانية، وأنها تختار تاريخنا الأفضل. في الشهر الماضي، وقفت حيث خاطب مارتن لوثر كينغ جونيور أميركا وحدّثها عن حلمه في وقت كان فيه الكثير من أبناء عرقي غير قادرين حتى على التصويت للرئيس. وفي وقت سابق من هذه السنة، وقفت في الزنزانة الصغيرة حيث عانى نلسون مانديلا عقودًا من الزمن مبعدًا عن شعبه والعالم. وهل يعقل أن نعتقد نحن أن تحديات اليوم لا يمكن تذليلها بينما نرى ونلمس ما تحققه التغيرات في الروح الإنسانية ؟ ومن منكم في هذه القاعة يستطيع أن يحاجج بأن المستقبل يخص أولئك الذين يسعون إلى قمع تلك الروح بدلا من الذين يسعون إلى تحريرها ؟

إنني أدرك في أي جانب من التاريخ أريد للولايات المتحدة أن تكون. نحن مستعدون لمواجهة تحديات الغد معكم- حازمين في إيماننا بأن جميع الرجال والنساء ولدوا في الحقيقة متساوين، وأن كل فرد قد وُهب الكرامة والحقوق التي لا يجوز التصرف بها أو نكرانها. ولهذا السبب ننظر إلى المستقبل، ليس بخوف بل بأمل. ولهذا السبب نظل مقتنعين بأن بمقدور الأسرة الدولية هذه أن تحقق عالمًا أكثر أمنًا وسلامًا ورخاءً وعدلا للجيل التالي.

وشكرًا جزيلا لكم.