حضرة الرئيس

أتمنى عليك أن تتقبل، بهدوءٍ، كتابي هذا لأنه صادرٌ عن إنسان يحبّ ويقدر التراث الثقافي الفرنسي، بتنوّعه وتجلّياته وغناه. ويزداد تعلقي به لشعوري العميق بأن هذا التراث الكبير يتعرض، في الزمان الرديء الحالي، لأضطهاد يشعر به كل من يلمس لمس اليد مدى فراغ حياتكم العامة، الراهنة، من المبادئ السامية التي يحملها هذا التراث، وأولها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن"، الصادر في 26 آب 1789، مع الثورة الفرنسية، التي لها ما لها وعليها ماعليها، من إيجابيات وسلبيات.

إن تراثكم الثقافي هذا، تراث حرٌ، يصقل ويحصن ويحمي إنساناً حراً، كما أراده الله حراً، تراث يحمل قيماً إنسانية – إجتماعية راقية، لا يجوز تقييدها وفرض حظرٍ عليها ووضعها في رفًّ من رفوف الذاكرة، من خلال قطع صلتها بالواقع المعاش، ففي ذلك جريمةٌ بحق الإنسانية، ما مثلها جريمة. قيم ولّدت مبادئ الحرية والمساواة والاخوة، وجعلت من الثورة الفرنسية منارة وبوصلة لشعوب العالم، وحضّرت لولادة النظام الديمقراطي في فرنسا، وفي غيرها من البلدان، وذلك خلافاً للثقافة التي يرّوج لها اليوم والتي تطوّع الناس وتسلبهم مكتسباتهم الاجتماعية، تدريجياً، وتجعلهم يتقبلون العبودّية المقنعة والظلم الاجتماعي، وتحضّر لولادة إنسان شبه آلي، مسحوق الكرامة، عديم الطموح، خالٍ من الإحساس...

إن تراثكم العريق، المضطهد اليوم، صنعه أحرارٌ قالوا بصوتٍ عالٍ في وجه لويس الثالث عشر، كبير ملوك فرنسا: "مهما كان الملوك كباراً، فهم بشر مثلنا. ممكن أن يخطئوا كما يخطئ باقي الناس"...(من مسرحية "السيّد" لبيار كورناي، عام 1637، أي قبل قرنٍ ونصف القرن من الثورة الفرنسية)...

وهو التراث نفسه الذي جعل الفيلسوف المميز جان بول سارتر يرفض، في منتصف الستينات من القرن العشرين، جائزة نوبل "للسلام"، وكأنه كان يتوّقع أن يصبح من المتعارف عليه منحها إلى مخلوقات من أمثال شمعون بيريز، صاحب مجزرة قانا وأب القنبلة الذرية الإسرائيلية وغيره من عشاق الحروب العدوانية.

سأكتفي بهذين المثلين، المفعمين بالرموز والمعاني. فما بالك بفولتير وروسو وغيرهما الكثير من المنارات الفكرية الكونية، القديمة والمعاصرة... منهم من رحل ومنهم من هو على قيد الحياة، ولكن...

فيا حضرة الرئيس، لماذا يغيب هذا التراث وتغيب مفاهيمه، غياباً كاملاً عن سياستكم؟.. وهل يجوز أن يبقى غائباً؟... وكيف لا يطرح هذا السؤال ونحن أمام تحولات متسارعة في ميدان الصراع على سورية، خصوصاً أنكم شركاء فيه، منذ ولادته، بل منذ التحضير له، من دون أن يكون لكم القول الفصل فيه، أو حتى الكلمة المسموعة عند قيادة المعسكر الذي إليه تنتمون!!!...

إن المتغيرات المتسارعة التي تطرأ على المشهد العام، وعلى مكوناته كافة، وعلى المؤشرات الخطيرة التي تحملها، تبرّر طرح سؤالٍ بسيطٍ عليكم: ألم تفكروا للحظة باحتمال أن تتكرر معكم تجربة العدوان الثلاثي على السويس، للعام 1956، وبتداعياتٍ ونتائج ستكون أخطر بكثير عليكم من تداعيات ونتائج ذاك العدوان الفاشل؟!...

حضرة الرئيس

لقد أبديتم حماسة مذهلة لمشروع إسقاط الدولة السورية بقوة السلاح، بل أكثر من ذلك أظهرتم إستعداداً للمشاركة بعدوانٍ أطلسيّ واسع النطاق على سورية بحجة ضرورة الحسم مهما كلف الأمر، نظراً لعجز حلفائكم في الداخل السوري عن تحقيق الهدف. ألم تلاحظوا أن ما يحدث في سورية من حمامات دماء، على امتداد سنتين وسبعة أشهر، هو تدمير كامل لسورية كدولة وكمجتمع وككيان؟... وهنا، السؤال المركزي يطرح نفسه: هل أن إسقاط نظام، تصنفونه بالأكثر استبداداً في العالم، يبرّر تدمير بلدٍ بكامله وتحويله إلى مقابر؟؟؟... وأي نظام ديمقراطي سيبنى من مقابر؟!...

لقد أبديتم إصراراً على شنّ عدوان أطلسي بحجة استخدام النظام للسلاح الكيماوي المحظور دولياً. جيد. ووافقتم سلفاً على القرار الأميركي، المعلن رسمياً، والقاضي باستخدام الصواريخ العابرة للقارات، من طراز توما هوك، في هذا العدوان. والمعروف، في ضوء التجربة العراقية، أن الولايات المتحدة تزوّد هذه الصواريخ برؤوس تحمل مادة "اليورانيوم المنضب" لفرضين: الأول للتخلّص من مادة ونفايات اليورانيوم المنضب، بإخراجها من أراضي الولايات المتحدة ورميها على الدولة المطلوب تدميرها، مع ما يخلف ذلك من نكبات بيئيةٍ لمئات السنين، ونكبات صحية تفتك بأجيال من الشعوب المستهدفة، والثاني لكون فعالية هذه المواد، في اختراق الحصون والدروع، تخفف من تكلفة الحرب. ولقد استخدمت الولايات المتحدة في حرب تدمير العراق عام 2003 ما يزيد عن 2800 طنّ من اليورانيوم المنضب، حسب تأكيدات كبار الخبراء الدوليين مثل السيدين هانس كريستوفر فان سبونيك و دنيس هاليداي. معنى ذلك أنكم تعارضون إبادة الشعب السوري بسلاح كيماوي، حسب زعمكم، لكنكم توافقون على إبادته بالسلاح النووي!!!...

كما تلاحظون، يا حضرة الرئيس، أنني لا أُناقش في مدى صدقية الاتهامات التي تسوقونها ضد الدولة السورية في شأن السلاح النووي، على الرغم من أنني أصدّق ما جاء في التصريح العلني للقاضي السيدة كارلا دلبونتي التي تثبتت من مسؤولية حلفائكم الإرهابيين عن استخدام الكيماوي في خان العسل. والسبب الفعلي لعدم طعني بصدقية إتهاماتكم يعود إلى كونكم تصرون دائماً على تجاهل كل المجازر التي تنفذها المجموعات الإرهابية. فمنذ سنتين وسبعة أشهر، لم يصدر عن حلفكم الأطلسي أي تنديد، ولو بمجزرةٍ واحدةٍ من هذه المجازر، كيف لا وتحالفكم الدولي يتولى منذ البدء استقدام عناصر "القاعدة"، ومتفرعاتها، من بقاع الأرض كافة، وإدخالهم إلى العمق السوري. كما يتولّى تحالفكم تقديم الدعم اللوجستي والسلاح النوعي المتطور لهذه العناصر. ومن قبيل الاحترام لموقعكم المرموق، سأتجنب التعليق على خلفيات ومعاني قول وزير خارجيتكم (الذي لا ترقىى إلى عبقريته أية شكوك) بأن عناصر "جبهة النصرة"، المندمجين علناً ورسمياً مع منظمة القاعدة في بلاد الرافدين، "يقومون بعملٍ جيد".

حضرة الرئيس

إن الوسيلة المثلى لفهم سياسة دولة ما، تحتم الاطلاع على الثقافة السائدة في الحياة العامة لتلك الدولة. من هنا حديثي إليك عن التراث الثقافي الفرنسي ودوره في صياغة الديمقراطية الفرنسية، وفي تألق فرنسا. وللأسف أن هذا التراث، كما سبق وقلت في البداية، مضطهد. لماذا هو مضطهد؟... لأن هذا التراث بات ممنوع من الصرف في هذا الزمان الرديء. يكفي التأمل بالإعلام عندكم حيث الثقافة تكاد تنحصر بمنابر مهمتها الترويج للحملات العسكرية التي تشنها واشنطن. "مثقفون"، دورهم في هذه الحياة، تبرير "الحروب الوقائية" و "الفوضى البناءة" التي وضع قواعدها "أمراء الظلام" في الولايات المتحدة.

في الماضي القريب، والقريب جداً، كان الفيلسوف أندريه مالرو هو الأقرب إلى عقل وقلب الجنرال ديغول. إسمح لي أن أسألك من هو الفيلسوف، المفكر، الأقرب إلى عقلك وقلبك يا حضرة الرئيس؟... برنار هنري ليفي، أو فيلكينكروث أو غيرهما من المروجين للحروب الأطلسية؟... "مثقفون" يروجون لما أسماه المفكر اللبناني يوسف الأشقر بـ "زرع التوحش" في مناطقنا المجاورة لأوروبا، لأن هذا ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل. "مثقفون" لا يفكرون بأن زرع التوحش هذا لن يوفر إتحادكم ذات يوم قد يكون قريب. "مثقفون" يحتكرون الإعلام، الذي يتحول معهم، ومع مالكيه، إلى وسيلة إرهابٍ لمن تسوّل له نفسه رفض الخضوع لـ "الخطاب الأوحد". وكما تعلمون أن "الخطاب الأوحد" خطاب إيديولوجي جائر بطبيعته وغالباً ما يقود الى أبشع المصائر. ففي كتاب "عولمة الرعب" للمفكر المذكور آنفاً يتبين بوضوح أن "ما يجري حالياً في المتوسط وما يُحتمل أن يجري فيه خطير وفظيع وهو محكوم بأن يصبح أكثر فظاعة إذا قُدّر لهذا الاختراق الإيديولوجي المسخ، بمختلف وجوهه وألوانه، أن يقود هذه العملية في زرع التوحش الى نقطة اللارجوع، حيث يكتشف جميع الشركاء في المتوسط، وعلى رأسهم الأوروبيون، ولكن بعد فوات الأوان، أنهم أمام تيار ما عاد ممكناً ردّه، وأمام أعطاب وأضرار ما عاد ممكناً إصلاحها."

عذراً، إذا ما استخدمت عبارة "إرهاب" في الحديث عن إعلامكم الداعي إلى زرع التوحش، وشن الحروب العدوانية على بلادنا. ولست الوحيد في استخدام هذه العبارة. إن سلفكم الرئيس نيكولا ساركوزي اعترف بهذه الحقيقة حين اشتكى، إبان الحملة الإنتخابية للرئاسة، في العام الماضي، من تعرضه لـ "إرهاب النظام الإعلامي". هنا اعتراف من مرجعٍ رفيع المستوى بأن إعلامكم يمارس الإرهاب. إعلام إرهابي. بل أكثر من ذلك فإنه إعترف بوجود "نظام" إعلامي إرهابي. وكما تعلم يا حضرة الرئيس أن عبارة "نظام" Système هنا مضمونها سلبي إذ يشمل الترويج لـ"الخطاب الأوحدّ"، وهو ليس من سمات الديمقراطيات.

إن هذا الرأي، الشديد الدقة، يلتقي مع رأيك أنت يا حضرة الرئيس، بل ويتكامل مع رأيك. كيف؟.. أنت، يا حضرة الرئيس اعترفت، بصريح لسانك، في خطاب إنتخابي إبان الحملة الرئاسية نفسها، ألقيته في شهر كانون الثاني من العام 2012، في مطار لو بورجيه إذ قلت بالحرف : "لي خصم، وخصمي ليس له وجه ولا عنوان، ليس له حزب سياسي ولا يترشح إلى الانتخابات، لكنه هو الذي يحكم. إنه عالم المال".

معك ألف حقٌ، يا حضرة الرئيس. وكلامك واضح جداً. فالسلطة الفعلية في بلادكم لم تعد موجودة في المؤسسات الدستورية "الحاكمة" فالزمن، على ما يبدو، صار زمن ما بعد الديمقراطية. إنها "الأوليغارشية"، سلطة المال. كيف لا والـ "نيوليبرالية"، وهي أكثر أصناف الرأسمالية المتوحشة توحشاً لا تستطيع العيش في ظل النظم الديمقراطية بل في ظل الديكتاتورية سواء أكانت هذه معلنة أم مقنعة. فهل نستغرب كيف أن الإعلام أصبح "نظاماً" وأنه إرهابياً وهو المملوك، بمعظمه، من بيوت المال ومن الكتل الصناعية العسكرية، وبالتالي كيف يرّوج لأفكار تسهم في "زرع التوحش"، ليس في بلادنا فحسب، بل في بلادكم أيضاً؟؟؟... فهل بإمكاننا مثلاً أن نسترجع اليوم، كلام بيار كورناي عن أخطاء الملوك، فنضع كلمة الـ"نيوليبرالية" مكان "الملوك"؟... أو أن نضع كلمة "إسرائيل" مكان "الملوك"؟...

نحن أمام عناصر عدة تتكامل لتشكل المشهد العام، في بلادكم كما في بلادنا كما على الصعيد الدولي. والمشهد واقعي إلى أقصى حدّ ولا تحجبه الحجج المتداولة في سياق تبرير الحرب العدوانية لتدمير بلدٍ بأكمله: تدمير إنسانه – مجتمعه، وتدمير مرتكزاته الإقتصادية والثقافية والبيئية والكيانية، وزرع التوحش فيه وإبادة بنيه، و"إعادته إلى العصر الحجري" كما يردد عادة حكام الولايات المتحدة وإسرائيل في شأن معاقبة بلادنا. وهل من إرهاب أرهب من تحويل شعوب وبلاد بقدها وقديدها الى العصر الحجري؟...!

ألا تشكل ذروة في الإرهاب إخضاع شعوب سورية ولبنان وفلسطين، على مدى 3 شهور، للتهديد بحربٍ عدوانية تعيد إلى الذاكرة حرب تدمير العراق، بالأسلحة النووية الفتاكة نفسها؟؟؟... إنه زرع التوحش بعينه.

لو زرت يا حضرة الرئيس سورية، أو لبنان، أو فلسطين، واحتكّيت فعلاً بشعوبها لوجدت سائق التاكسي مثلاً يحدثك عن فيكتور هيغو. وأنا أسألك أنت المتحمس لتدمير بلادنا: هل قرأت، في حياتك، نتاج مثقفٍ أو مفكرٍ سوري واحد؟...

حضرة الرئيس

نصيحتي إليك أن توجه دعوة إلى الباحثة المرموقة الدكتورة هدى عبد الناصر، لكي تعرض لك المراسلات القيمة بين والدها الرئيس جمال عبدالناصر والجنرال ديغول. لعلّها وسيلة لمحاولة رأب ما تصدّع من جراءِ إندفاعكم في الحرب لتدمير سورية خصوصاً أن واشنطن بدّلت سياستها فجأةً، من دون الأخذ برأيكم، مكررةً بذلك ما فعلته بفرنسا وبريطانيا وإسرائيل إبان العدوان الثلاثي على السويس. كما أنصحك بقراءة كتاب "السويس" لوزير خارجية فرنسا يومذاك، الدبلوماسي المميز كريستيان بينو.

صدقني يا حضرة الرئيس أن الثقافة وحدها هي التي تحول دون الترويج لمشروع زرع التوحش الذي يُقصد به إعادتنا الى العصر الحجري.

حضرة الرئيس، تكرّم وتقبّل هذه النصيحة المتواضعة من شخص متحالفٍ مع المعارضة السورية الديمقراطية، الرافضة أساساً لعسكرة المعارضة، وللمال الخليجي الفاسد، ولتدخلاتكم المدمرة، ولبقاء النظام. المعارضة الديمقراطية التي رفضتم أنتم الإصغاء إليها علماً أن أحداً في سورية لا يشكك بصدقيتها.

أكرر شكري لتقبلكم هذه الرسالة الحريصة على علاقات إحترام وصداقة بين بلادنا وفرنسا. والسلام عليكم.

مصادر
As-Safir (Liban) ">As-Safir (Liban)