صمم العماد أول الراحل حسن توركماني مسألة الدفاع عن سورية من خلال شعبها.

ووفقا له، كان من الممكن أن يتعاضد البعض مع الكل، وجعل كل الطيف المجتمعي ينخرط في تلك العملية من خلال التشابك الثقافي الخاص لذلك المجتمع المتنوع، في مسألة الدفاع عن الوطن.

كانت رؤيته مجرد نظرية، لكنها أثبتت مع مرور سنوات الحرب صحتها، ونجت سوريا من هجوم أكبر تحالف دولي في تاريخ البشرية ضدها، تماماً كما نجت من الحروب التي اجتاحتها في العصور الرومانية، حين أطلق الأمبراطور "كاتون" شعار (يجب تدمير قرطاجة)، ومنه بعد نحو ألفي عام، أطلقت هيلاري كلينتون شعار "يجب على بشار أن يرحل! ".

أما أولئك الذين ما زالوا يأملون في تدمير سورية، فقد اكتشفوا، ولومتأخرين الآن، أنه يتعين عليهم أولاً إبادة الفسيفساء الدينية المتنوعة، قبل تدمير الحجر. لذلك انخرطوا في حملة مسعورة لتشويه صورة الأقليات، التي تشكل نمنمات تلك الفسيفساء الرائعة، من خلال تشجيع بعض عناصر الأغلبية على فرض نمط شعائرهم على باقي مكونات المجتمع السوري المتنوع.

بيد أنه اتضح لأي متابع الآن أن سورية تتمتع بتاريخ مديد من التعايش السلمي بين مختلف الأديان. وجميعنا يعرف كيف تمردت الملكة زنوبيا في القرن الثالث الميلادي على الطغيان الغربي للإمبراطورية الرومانية، وبسطت نفوذها على كامل شبه الجزيرة العربية، ومصر، وكل بلاد الشام، وجعلت من تدمر عاصمة لمملكتها المترامية الأطراف.

لقد حرصت ليس فقط على تطوير الفنون فحسب، بل على حماية جميع الطوائف الدينية المتنوعة.

في مقابل ذلك، شهدنا في فرنسا مثلاً ، حروباً دينية طاحنة في القرن السادس عشر، بين فرعين من المسيحية : الكاثوليكية والبروتستانتية. وامتد لهيب تلك الحروب إلى أن تمكن الفيلسوف مونتاين من تخيل نمط من علاقات مجتمعية تسمح للجميع بالعيش في سلام.

أما المشروع السوري الحديث، كما وصفه العماد الراحل حسن توركماني، فقد ذهب إلى أبعد من تصورات الفيلسوف منونتاين، حيث رأى أن الأمر لا يتعلق بمجرد إنضاج فكرة التسامح مع الآخرين الذين يؤمنون بنفس الإله الذي نؤمن به جميعاً، والذي نعبده بطرق مختلفة، بل بمشاركتهم في تعبدهم. وهكذا، في سورية فقط، كل الفسيفساء المجتمعية تقوم بتبجيل ضريح يوحنا المعمدان في الجامع الأموي الكبير، بمن فيهم اليهود، والمسيحيين والمسلمين. إنه المسجد الوحيد الذي صلى فيه المسلمون مع البابا يوحنا بولس الثاني، حين زار دمشق، حول رفات القديسين.

أما في أوروبا، الخارجة من معاناة الحربين العالميتين، فقد اعتمد كهنة الديانات المختلفة فيها خطاباً يشدد على ضرورة الخشية من الله في الحياة الدنيا ليُثاب المرء في الحياة الآخرة. فتطورت ممارسة الطقوس الدينية، لكن قلوب الناس تلاشت. ومع أن الله لم يرسل أنبيائه ليعد الناس بالويل والثبور، إلا أن جيلا من الشباب، الطامحين إلى الانعتاق من تلك القيود الكهنوتية، انتفضوا على حين غفلة بعد ثلاثين عاماً من الحرب العالمية الثانية، ليعلنوا رفضهم فكرة الكهنوت من أساسه، فأصبحت العلمانية، التي كانت نهج حكم للعيش معاً، مع احترام الاختلافات الدينية، إلى سلاح ضد تلك الاختلافات ذاتها.

ليتنا لانقع في نفس خطأ الشعوب الغربية في سورية.

إن دور الأديان ضروري، لكن ينبغي عليها أن لا تفرض دكتاتوريتها في طريقة حياة الآخرين، كما فعل داعش وأشباهه، وأن لاترعب ضمائر الناس، كما فعل الكهنة الأوروبيون في القرن العشرين. وأن لايقتصر دور الدولة على فض النزاعات الدينية، ناهيك عن الاختيار بين الأديان، بل ضمان أن كل مواطن يستطيع ممارسة شعائره الدينية من دون خوف.

لقد تكفل كل من حزب البعث، والحزب السوري القومي الاجتماعي منذ باكورة تأسيس كل منهما بإرساء دعائم "دولة علمانية"، أي بما يضمن أيضاً حق كل فرد حرية إقامة شعائره الدينية من دون خوف.

هذه هي حقاً سورية.