يأتي هذا المقال في سياق:
1- الشرق الأوسط يحرر نفسه من الغرب

لم تطل ردة فعل أنصار "الإمبريالية الأمريكية" في وجه نجاحات أنصار العالم المتعدد الأقطاب. في هذا المقال، سوف نتطرّق إلى تحوّلين مهمّين: تحوّل السوق المشترك الأوروبي إلى هيكل عسكري، وإعادة بناء "محور" الحرب العالمية الثانية. هذا التحول الأخير يقحم لاعباً جديداً في اللعبة: اليابان.

في البرلمان الفرنسي، تحالف شارل ديغول مع الشيوعيين لإفشال مشروع "مجموعة أوروبا الدفاعية".

تحوّل الإتحاد الأوروبي

في 1949، أسّست الولايات المتحدة والمملكة المتحدة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ووضعت فيها كلّ من كندا والدول التي حرّرتاها في اوروبا الغربية. بالنسبة للأمريكيين وللبريطانيين، لم يكن الهدف دفاعيا، بل رمى إلى التحضير لهجوم على الإتحاد السوفياتي، الذي أجاب عليهم بإنشاء حلف وارسو.

عام 1950، مع انطلاف حرب كوريا، حاولت الولايات المتحدة أن توسّع نطاق القتال ليشمل جمهورية ألمانيا الديموقراطية ("ألمانيا الشرقية"). للقيام بذلك، كان عليهم إعادة تسليح جمهورية ألمانيا الفدرالية ("ألمانيا الغربية")، وذلك بالرغم من معارضة فرنسا، بلجيكا، و اللوكسمبورغ. اقترح الأمريكيون بذلك إنشاء مجموعة أوروبا الدفاعية، ولكنهم فشلوا في وجع مقاومة الديغوليين والشيوعيين الفرنسيين للمشروع.

في الوقت آنه، دعم الأمريكيون إعادة إعمار اوروبا الغربية مع مشروع مارشال، الذي تضمّن العديد من البنود السرية، منها انشاء سوق اوروبي مشترك. كانت واشنطن ترمي في آن واحد إلى الهيمنة اقتصادياً على أوروبا وإلى الحفاظ على نفوذها السياسي في وجه النفوذ الشيوعي و"الإمبريالية السوفياتية". شكّلت المجموعات الإقتصادية الأوروبية- وفيما بعد الإتحاد الأوروبي- الشقّ المدني من آلة النفوذ الأمريكية، فيما شكّل الناتو شقّها العسكري. ليست المفوضية الأوروبية إدارة لقادة دول وحكومات الإتحاد الأوروبي، بل صلة الوصل بينهم وبين الحلف الأطلسي. هذا الأخير، من اللوكسمبورغ ثمّ من بروكسل، هو من يضع الأحكام الأوروبية المتعلقة ليس فقط بالتّسلّح والبناء، بل أيضا بالعتاد، بالملابس، بالطعام إلخ. بعد وضعها، تُرسل الأحكام إلى المفوضية الأوروبية، ويتمّ التصديق عليها اليوم في البرلمان الأوروبي.

عام 1989، وفي وقت كان الإتحاد السوفياتي ينهار فيه على نفسه، خطّط الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران والمستشار الألماني هلموت كول للتحرّر من الوصاية الأمريكية بشكل يسمح بمنافسة واشنطن. جرت المفاوضات على هذا المشروع بالتزامن مع انتهاء الإحتلال الرباعي لألمانيا (12 أيلول 1990)، إتحاد دوليتها من جديد (3 تشرين الأول 1990)، وحلّ حلف وارسو (1 تموز 1991). قبلت واشنطن بهذا الإتفاق، شرط أن يعترف بهيمنتها العسكرية. قبل الأوروبيون الغربيون بهذا المبدأ.

ومع ذلك، لم تثق واشنطن بثنائي ميتران-كول، واشترطت عند آخر لحظة أن يشمل الإتحاد الأوروبي جميع أعضاء حلف وارسو السابقين، بما فيهم الدول التي حصلت على استقلالها من الإتحاد السوفياتي السابق حديثاً. لم تشارك هذه الدول تطلّعات المفاوضين الأساسيين لاتّفاقية ماستريخت، وبالأحرى لم تثق حتّى بهم. هذه الدول رمت إلى التحرر في الوقت آنه من النفوذ الألماني ومن روسيا. بذلك، عوّلت هذه الدول للدفاع عن نفسها بشكل حصري على "المظلة الأمريكية".

عام 2003، إستفادت واشنطن من ترؤّس اسبانيا للإتحاد الأوروبي ( بشخص الإشتراكي فيليبي غونزاليز) والممثل الأعلى للسياسة الخراجية والأمن المشترك خافيير سولانا، لكي تدفع إلى تبنّي "الإتستراتيجية الأوروبية الأمنية"، التي كانت نسخة منسوخة عن استراتيجية الأمن القومي التي تبنّاها الرئيس الأمريكي جورج بوش. تمّ تعديل هذا المستند عام 2016 على يد الممثّلة العليا فدريكا موغريني.

كرّس ايمانويل ماكرون ترؤّس فرنسا للإتحاد الأوروبي لمحاولة بناء مجموعة الدفاع الأوروبية من جديد، وذلك تحت شعار "البوصلة الإستراتيجية" للإتحاد الأوروبي. هذه المرة، لم يُقدَّم المشروع للبرلمانات الوطنية. اقتصر البتّ بهذا القرار على قادة الدول والحكومات، دون أن يناقش أو أن يختار ناخبوهم أي شيء.

عام 2022، خلال حرب اوكرانيا، رأت الولايات المتحدة من جديد، وكما كان الأمر عليه خلال حرب كوريا، أنها تحتاج إلى إعادة تسليح ألمانيا ضد روسيا (وريثة الإتحاد السوفياتي). بذلك بدأ الأمريكيون بتحويل الإتحاد الأوروبي من جديد، هذه المرّة مع توخّي الحذر. خلال فترة رئاسة الفرنسي ماكرون للإتحاد، إقترح الأمريكيون عليه "بوصلة استراتيجية". لم يتمّ تبنيّ هذه الأخيرة إلا بعد شهر من انطلاق العملية الروسية في اوكرانيا. إزداد شلل الأوروبيين لأنهم ما زالوا لا يعلمون تحديداً ما إذا كانوا مجموعين سوياً بهدف التعاون أو بهدف الإندماج ("الغموض البنّاء"، بحسب عبارة هنري كيسنجر).

في آذار 2023، نظم الممثل الأعلى الحالي للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية وسياسة الأمن، جوسيب بوريل، أول "منتدى روربت شومان للأمن والدفاع". شارك في المنتدى الكثير من وزراء الدفاع والخارجية التباعين للدول العضوة في الإتحاد. إضافة لذلك، شاركت دول أوروبية غير عضوة في الإتحاد، إنما موالية للأمريكيين، كما أنّ العديد من الدول الغير الأوروبية أرسلت وزراء، مثل أنغولا، غانا، الموزمبيق، النايجر، نايجيريا، رواندا، السينيغال، الصومال، مصر، تشيلي، بيرو، جورجيا، اندونيسيا، واليابان. كذلك، شارك الناتو، أسيان، مجلس التعاون الخليجي، والإتحاد الأفريقي عبر إرسال ممثّلين عنهم. خصوصاً، أرسلت جامعة الدول العربية أمينها العام.

يرمي هذا المنتدى صراحة إلى الدفاع عن "التعددية والنظام العالمي المبني على القواعد": وهي طريقة مهذّبة للطعن بالشروع الروسي-الصيني "لعالم متعدد الأقطاب مبني على القانون الدولي".

بمناسبة وباء الكوفيد، انتزع الإتحاد الأوروبي سلطات في مجال الصحة، لم تكن الإتفاقيات قد نصّت عليها. عند انطلاف هذا الوباء، كنت قد فسّرت أن عزل الأشخاص السالمين من أي عدوى لم يكن له أي سابقة تاريخية، بل جاء بناء على طلب المدير السابق لمختبر جيلياد سيانس ووزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفلد، الذي ترجمه إلى حيّ. الوجود الدكتور ريتشارد هاتشيت (الذي أصبح مدير مركز الإبتكارات في مجال التحضير للأوبئة، وبذلك المحرّك وراء الدفع للعمل بهذا الإجراء في كلّ أنحاء العالم) . بحسب تقرير هاتشيت السّرّي عام 2005، الذي ومع الأسف لا نعلم عنه إلا ردات الفعل التي سبّبها، كان الهدف وراء عزل المدنيين هو السماح بتحديد أي وظائف يمكن نقلها إلى الخارج، بإغلاق صناعات المواد الإستهلاكية في الغرب، وبتركيز القدرة العمّالية على الصناعات الدفاعية. لم نصل إلى هنالك بعد، ولكن الإتحاد الأوروبي، الذي استولى على سلطات الصحة العامة في تعدٍّ على إطار الإتفاقيات المؤسسة له، بات يفسّر هذه النصوص بشكل يسمح له بالتحوّل إلى قوة عسكرية.

جوسيب بوريل في منتدى روبرت شومان للأمن والدفاع

في الأسبوع السابق، وأثناء انعقاد منتدى شومان، قدّم جوسيب بوريل تقريره الأول عن إدخال "البوصلة الإستراتيجية" في حيّز التنفيذ. يتعلّق الأمر بتنسيق وضع الجيوش الوطنية ضمن إطار مشترك، بما يشمل المخابرات، وذلك بهدف دمجها وليس التعاون بينها. يدفن مشروع ماكرون بذلك مشروع شارل ديغول والشيوعيين الفرنسيين. "أوروبا الدفاعية" باتت تبدو اليوم وكأنّها شعار لا يرمي فقط إلى قوات الدول العضوة في الإتحاد العسكري تحت سلطة القائد الأعلى للقوات الحليفة في أوروبا (وهو حالياً الجنرال الأمريكي كريستوفر كافولي)، بل أيضا إلى السيطرة على جميع قرارات التمويل التي كانت حتى اليوم من صلاحية البرلمانات الوطنية، ووصولاً إلى قرارات التسلّح والتنظيم التي كانت تعود للسلطات التنفيذية العائدة لكل دولة عضوة. بذلك يبني الإتحاد الأوروبي جيشاً مشتركأً دون معرفة من الذي سيقوده.

إعادة إنشاء المحور النازي-الياباني

عندما نفكّر بالحرب العالمية الثانية، يتبادر إلى ذهننا نحن الأوروبيين تاريخي 1939 و1945. ولكن هذا خطأ كبير. بدأت الحرب عام 1931 مع هجوم جنرالات يابانيون على جنود صينيين في مانشوريا. كان ذلك أول تعدٍّ من الفريق العسكري في اليابان على السلطات المدنية فيه، وازدادت حدّة الهجوم بعد بضعة أشهر، مع اغتيال مجموعة من العسكريين لرئيس الوزراء المدني. في سنوات قليلة، تحوّل اليابان إلى قوّة عسكرية وتوسّعية. لم تنتهِ هذه الحرب عام 1945 مع تحرير الجيش الأحمر لمانشوريا. بالفعل، ألقت الولايات المتحدة قنبلتين نوويّتين على اليابان لمنعه من الإستسلام للإتحاد السوفياتي، بل للجنرالات الأمريكيين. إستمرّت المعارك جتّى عام 1946 مع رفض العديد من اليابانيين الإستسلام للولايات المتحدة، التي لم تكن قد قاتلت إلا قليلا حتى ذلك الوقت في المحيط الهادئ. بذلك، دامت الحرب العالمية الثانية من 1931 إلى 1946. إذا كنّا نخطأ في تحديد التواريخ، فذلك يعود إلى عولمة الحرب فقط مع محور روما-برلين-طوكيو ("الحلف الثلاثي")، الذي انضمّت إليه بسرعة كل من المجر، سلوفاكيا، بلغاريا، ورومانيا.

لم يكن أساس المحور يكمن في مصالح أعضائه المتباينة، بل في تعظيمهم لفكرة القوّة. لإعادة إنشائه اليوم، يجب توحيد من يؤمنون بالقوة أيضاً.

لعب يوشويو كوداما (أول عرّاب للياكوزا) دوراً أساسياً في التوسّع العسكري الياباني. عقب الحرب العالمية الثانية، سُجن كوداما، ثم استفاد من تبدّل سياسة الولايات المتحدة، فأسّس الحزب الليبرالي الذي يتحدّر منه شينزو آبي وفوميو كيشيدا. قاد كوداما من الخلف العديد من عمليات وكالة الإستخبارات المركزية في بلاده. كان كوداما عضواً في جامعة محاربة الشيوعية العالمية في فترة رئاسة سلافا ستيتسكو (التي كتبت المادة 16 من الدستور الأوكراني) لها.

عندما احتلّت الولايات المتحدة اليابان عام 1946، فكّرت أولا بإبعاد جميع مناصري الحرب. ولكن، مع انطلاق حرب كوريا، قرّر الأمريكيون أن يستندوا إلى اليابان لمحاربة الشيوعية. بذلك، أنهى الأمريكيون المحاكمات الجارية وأعادوا تأهيل 55 ألف موظف رفيع. كذلك، وضع الأمريكيون مشروع دودج المشابه لمشروع مارشال في أوروبا. من المستفيدين السعيدين من هذا التغير في السياسة كان هاياتو إكيدا، الذي أصبح رئيساً للحكومة وأعاد بناء اقتصاد البلاد. بمساعدة وكالة الإستخبارات المركزية، أسّس إكيدا الحزب الليبرالي-الديموقراطي. من هذا الشّق تحدّر رئيسا الحكومة شينزو آبي (2012-2020) وفوميو كيشيدا (2020-).

هذا الأخير ختم للتّو زيارة مفاجئة إلى اوكرانيا. بذلك أصبح كيشيدا أول رئيس حكومة آسيوي يتوجّه إلى اوكرانيا منذ انطلاف الحرب. زار كيشيدا مقبرة بوتشا الجماعية، وأعرب عن تعازيه لعائلات ضحايا "المجازر الروسية". معظم المحلّلين فسّروا هذه الزيارة على أنها تحضير لقمّة مجموعة الدول السبع القادمة في اليابان. ولكن الأمر قد يكون أبعد بكثير.

في 21 آذار 2023، تحالف فوميو كيشيدا مع فولوديمير زلنسكي ضد روسيا والصين. بذلك يطوّر كلاهما حبل العلاقات التي أنشأها يوشيو كوداما وسلافا ستيتسكو.

في بيانهما النهائي، أكّد كيشيدا وزلنسكي على "استحالة التفريق بين الأمن اليوروأطلسي والهندو-هادئ" وعلى "أهمية السلام والإستقرار في مضيق تايوان". لا ينحصر الأمر بالنسبة لهما بالدفاع عن اوكرانيا في وجه روسيا، بل وأيضا الدفاع عن اليابان في وجه الصين. يضع هذا البيان الأسس لتحالف جديد بين ورثة النازيين وهم "القوميين الشموليين" الأوكرانيين ، وورثة القومية اليابانية ("شووا"). أوكرانيا الحالية هي الدولية الوحيدة في العالم التي تملك دستوراً يتبنّى العرقيّة صراحة. ينصّ هذا الدستور في مادّته السادسة عشر، الذي تمّ تبنّيها في 1966 وتعديلها في 2020، على أن "حماية الإرث الجيني للشعب الأوكراني هي من مسؤوليات الدولة". كانت سلافا ستيتسكو، أرملة رئيس الحكومة النازي ياروسلاف ستيتسكو، هي من كتبت هذه المادّة.

على العكس، ينصّ الدستور الياباني في المادة 9 على التخلّي عن الحرب، ولكن شينزو آبي وفوميو كيشيدا شنّوا حملةً بهدف تعليقها. تمنع هذه المادة جملة أعمال، منها تحويل معدّات دفاعية فتّاكة. بذلك، أرسل كيشيدا مساعدات انسانية ومالية بقيمة حوالي 7,1 مليار دولار إلى كييف. أمّأ فيما يتعلّق بالمعدّات الدفاعية غير الفتّأكة، فلم يتمكّن كيشيدا إلّا من إرسال عتاد بقيمة 30 مليون دولار.

تدعم واشنطن (التي اتّخذت فريقها مع دعم اوكرانيا) إعادة التسلح اليابانية هذه. غرّد سفير الولايات المتحدة إلى طوكيو رام إمانويل: "يقوم رئيس الحكومة كيشيدا بزيارة تاريخية إلى اوكرانيا بهدف حماية الشعب الأوكراني ودعم القيم العالمية المرسّخة في ميثاق الأمم المتحدة (...) على بعد حوالي 900 كم منه، تتشكّل في موسكو شراكة مختلفة وأكثر سوءٍ" (في إشارة منه إلى القمة بين الرئيسين بوتين وتشي).

من جانبه، علّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وي بين على زيارة رئيس الحكومة الياباني "بأنّه يأمل أن يضغط اليابان في سبيل حلحلة الأوضاع، وليس العكس". من جهتها، أرسلت روسيا قاذفتي قنابل استراتيجيتين فوق بحر اليابان، حيث حلّقتا لمدّة 7 ساعات.

ترجمة
Alaa el-Khair