من اللافت للنظر أن تنظر بعض الأوساط العلمانية
الإعلامية إلى حل القضية العراقية على قاعدة
التسويات الداخلية بين حكومة الظل الأميركية في
العراق والقوى الرافضة للاحتلال. وقد حسم هؤلاء
مواقفهم بتناسي أصل الصراع الحاصل وهو الاحتلال
بحيث اعتبروه قدراً مكتوباً لا يمكنهم رده، ولا
يمكن مواجهته. وراحوا يفصلون الثوب العراقي
وكأنه مسألة صراع داخلي بين مجموعات عراقية
إثنية مع حكومة شرعية!!!
من اللافت للنظر أن تنظر بعض الأوساط العلمانية
الإعلامية إلى حل القضية العراقية على قاعدة
التسويات الداخلية بين حكومة الظل الأميركية في
العراق والقوى الرافضة للاحتلال. وقد حسم هؤلاء
مواقفهم بتناسي أصل الصراع الحاصل وهو الاحتلال
بحيث اعتبروه قدراً مكتوباً لا يمكنهم رده، ولا
يمكن مواجهته. وراحوا يفصلون الثوب العراقي
وكأنه مسألة صراع داخلي بين مجموعات عراقية
إثنية مع حكومة شرعية!!!
كما عوَّدتنا بعض الأوساط السياسية والإعلامية
والثقافية تصرَّف هؤلاء على قاعدة أن الخطاب
العربي التعيس ينسى الأسباب وينفعل بمعالجة
نتائجها. ولأن النتائج الناشئة عن السبب الرئيس
تتبدَّل وتتلوَّن وتتغيَّر، أو فلنقل إن صانع
الأسباب يعمل على مسحها ومسخها وتلوينها، ولأن
المعالجات السطحية لمضمون تلك القضايا تلاحق
الصورة المرحلية فلا بد من أنها ستؤدي إلى
معالجات سطحية أيضاً.
هكذا فعل الخطاب العربي السالف ذكره مع القضية
الفلسطينية بحيث تناسى في كل وصفاته العلاجية
السبب الرئيس من اغتصاب فلسطين وأهدافه،
وتصرَّف على أساس أن الاغتصاب قدر لا مردَّ له؛
كما وضع الاستعمار –الذي أسَّس لفكرة الاغتصاب
وعمل على حمايته- حكماً في معالجة الصراع الدائر
بين حركة التحرر الفلسطينية وكيان الاغتصاب
الصهيوني. فكانت النتيجة أن أعفينا الاستعمار
من مسؤولية تأسيس الكيان الصهيوني ومسؤولية
حمايته ومساعدته بكل الإمكانيات الاقتصادية
والعسكرية والسياسية.
وكنتيجة حاصلة عن تلك النتيجة راحت الماكينة
النظامية العربية والتي تساندها أوساط سياسية
وإعلامية تعمل من أجل معالجة كمٍّ هائل من
النتائج التي كانت تفرضها طبيعة الصراع الحاصل
بين الصهيونية والأمة العربية. وقد وصلت الأمور
إلى الحدود التي تحوَّل فيها الطرف الذي مورست
عليه وسائل الاغتصاب إلى مغتصب وإرهابي يعمل من
أجل تهديد كيان صهيوني –كما تصوره وسائل
الإعلام الخادمة للمشروع الأكبر- آمن ويريد
العيش بسلام ليساعد الإرهابيين المتوحشين على
العيش بديموقراطية وطمأنينة. لذا نجا المغتصب
والإرهابي الحقيقي من تهمة الاغتصاب والإرهاب،
وغرق الخطاب العربي التقليدي في دائرة الدفاع
لرد التهمة عن الفلسطيني!!!
وقياساً على قاعدة مسح كل أثر للسبب الحقيقي
وجرَّ ذاكرة من لديهم ضعف بالذاكرة إلى اعتبار
النتائج المرحلية سبباً، تقوم الآن الماكينة
الإعلامية الأميركية، وكل من يتعاون معها من
مؤسسات عربية وأفراد، إلى مسح تعبير الاحتلال
من ذاكرة الشعوب والرأي العام على شتى مستوياته
وتحويل الأنظار عنها بعدة من الوسائل، منها ما
تروِّج له بعض الأوساط تحت عدة من العناوين
والأساليب، ومن أهمها:
– إعطاء فرصة لحكومة ظل الاحتلال العراقية،
ويعبِّر عنها بعض الساذجين ب"فترة سماح"، لتثبت
كفاءتها في إعادة الأمن إلى العراق. وإذا نجحت
بذلك تستقر الأمور لبناء دولة عراقية تتمتع
بالديموقراطية والعيش الرغيد.
– إن البعض من تلك الأوساط تحسب أنه يمكن لحكومة
الظل العراقية حلَّ قضية النجف –مثلاً- على
أساس أن يضع أعضاء الحكومة الشيعة كل ثقلهم مع
المرجعيات الدينية والسياسية الشيعية لوضع حل
يقي النجف والعتبات المقدسة شر التدمير، ويحفظ
الدماء الشيعية التي تُهدَر على أرض النجف. وعلى
منوال هذا الابتكار الذي يثير السخرية يقترح
أولئك أن يقوم أعضاء حكومة الظل من السنة بوضع
ثقلهم لمنع إراقة الدماء السنية في الفلوجة
والرمادي…
إن أخطر ما يمكن التقاطه من تلك السذاجات أو
الآراء المشبوهة هو تحويل الأنظار عن سبب
الاحتلال إلى نتائج الصراعات الداخلية بين
حكومة الظل العراقية وأدواتها العميلة
للاحتلال من جهة والقوى الرافضة له من جهة أخرى.
أي نقل الصراع من معادلة أسود وأبيض (كقاعدة لا
ثاني لها في حالة الاحتلال) أي بين الاحتلال
ورافضيه، إلى معادلة أخرى تقوم على تحويل وجهته
المبدأية إلى صراع داخلي بين مجموعات عراقية
حاكمة ومحكومة، يتدخَّل القاضي الأميركي بين
المتخاصمين لفض خلافاتهما.
وعلى مثال القضية الفلسطينية التي وكَّلنا فيه
الجهات الاستعمارية حكماً منصفاً بين منطق
الاغتصاب ورافضه، يعمل السُذَّج أو المتواطئون
من وسائل الإعلام العربية إلى تحييد قوى
الاحتلال الأميركي وتنصيبها حكماً بين جماعات
عراقية متصارعة تارة في النجف وطوراً في
الفلوجة وأخرى في الموصل…
وكي لا تنجح الأصوات الداعية إلى حل مسألة النجف
على قاعدة أن لها خصوصيات، نقترح على الذين
ينظرون نظرة استراتيجية أن لا يباركوا أي حل
قائم على تسوية داخلية منفردة لأنها ستصب –بشكل
لا يقبل الجدل- في مصلحة الاحتلال الأميركي.
وتلك المصلحة تصبح واضحة من زاويتين:
الأولى: النجاح في تحييد الاحتلال وتبرئته من
جريمة احتلال العراق، وإعطائه صك براءة بتعيينه
حكماً بين جماعات عراقية متناحرة، أي حكماً بين
حكومة عراقية شرعية!!! ومتمردين على قرارتها
وأوامرها. فتظهر تلك الحكومة وكأنها تواجه
إرهابيين شيعة تارة وإرهابيين سنة تارة أخرى.
الثانية: إن نجاح العقل الأميركي الذي خطط لمثل
تلك اللعبة سيعطيه غطاء أخلاقياً عند من سقطت
تلك الأخلاقية أمامه. وسيعمل في دق إسفين في جسد
الوحدوية الوطنية العراقية. وقد يعطيه مكسباً
في تحييد منطقة عراقية ووضعها خارج معادلة
(الاحتلال والمقاومة).
إن الوصول إلى هكذا حل يرتِّب عدداً من
المتغيرات، من أهمها أنه يعفي العامل الإيراني
المتواطئ مع الاحتلال الأميركي من إحراجات
كثيرة وكبيرة، خاصة وأنه مستفيد من هيمنة
ميليشياته على الواقع الأمني تحت قبعات الشرطة
والحرس الوطني في المنطقة الجنوبية من العراق.
وهذا ما يجعله أقرب من تحقيق حلمه في كسب
المرجعية الشيعية إلى جانبه. وهو بهذا يصبح ذا
تأثير بالاقتراب أكثر من كعكة عائدات السياحة
الدينية في العتبات المقدسة.
وكي لا تبقى في ذاكرة القارئ وكأن الصورة
سوداوية، أو كأن الأفق أصبح مغلقاً أمام
المقاومين، لا بُدَّ من إعادة التذكير بأنه منذ
بداية الاحتلال، وعلى الرغم من شراسة الهجمة
عليهم، سطَّروا صفحات كثيرة ومشرقة من العمل
المقاوم الذي أسهم في إلحاق الأذى الكبير في جسد
الاحتلال وجسد القوات التي أتت تحت غطاء "إعادة
إعمار العراق"الكاذب.
وإن أكثر ما نودُّ الإشارة إليه هو أن يحذر
العراقيون من الوقوع في أفخاخ شرذمة ساحة
المقاومين من الشمال إلى الجنوب على قاعدة
مشبوهة تعمل لتمزيق النسيج الوطني العراقي على
قاعدة حماية خصوصيات مصالح الإثنيات العرقية
والدينية.
25/ 8/ 2004-لبنان