" مرحبا بكم في نيكاراغوا الحرة بفضل الرب وبفضل الثورة" تقول لافتة كبيرة وضعت أثناء وصول البابا إلى المطار. إن كان جون بول الثاني قرأها، فقد ساهمت قليلا في تعكير مزاجه.

وقد أشار بعض الملاحظين من علماء اللاهوتية في اسبانيا أنه كان منفتح القلب، و متعاطف أثناء الجولة التي قام بها في أمريكا الوسطى، داعب الأطفال، و حيا المرضى، لكنه لم يفعل ذلك في نيكاراغوا، هناك بدا جادا و جاف المشاعر، دون أية حميمية عاطفية مرتجلة و دون أن يخرج عن الإطار البروتوكولي الرسمي. و ليس هذا فحسب ن فان هذا لا يساوي شيئا بالمقارنة مع ما سيحدث أثناء إقامته للقداس الديني في الهواء الطلق.

بمجرد أن وضع رجله على ارض نيكاراغوا، وجه لي توبيخا أمام العامة في المطار، بحضور تلفزيونات العالم بأسره. وإن كان ذلك التوبيخ لم يفاجئني، إلا أنني لم أكن مستعدا له.
حذرني السفير البابوي من أن ذلك قد يحدث. كان البابا يرفض أن يستقبله في المطار الأساقفة المتواجدون في الحكومة. لكن الأمر لم يكن متعلقا إلا بي، لأن الأب إسكوتو الذي كان يحتل منصب المستشار، كان يشارك في مؤتمر نيودلهي.

أخي فرناندو، الذي كان فيما بعد وزيرا للتعليم، كان أيضا مسيرا للشباب الصاندياني. [1] الأب "براليس" كان دبلوماسيا في واشنطن. وأنا بصفتي عضو في الحكومة، كان يجب علي أن أكون حاضرا للاستقبال. قلت للمديرية الوطنية أنه لم يكن ثمة أية مصلحة للحضور، و أنه يتوجب التفاوض على كل شيء آخر غير الحضور لأنه بوجود البابا، صار كل شيء موضوعا للنقاش ومحلا للجدل؟

من سيصعد سلم الطائرة لينزل بمعية قداسته؟ ماذا لو نزعنا اللوحة الجدارية التي وضعها مؤسسو الجبهة الصنديانية، التي تظهر فوق رأس البابا؟( لم يتم نزعها طبعا) كنا ندقق في أبسط التفاصيل حتى الأقل أهمية. فحين يسافر السيد البابوي، فلا شيء يبدو غير ذي أهمية. أما عني، فان المديرية الوطنية لم تستسلم، فقد أصروا على تواجدي هناك، لأنه بالإضافة إلى كوني عضو في المكتب، فأنا أيضا أمثل رمزا للتحرر الوطني.

لقد كان التلويح والتهديد بإلغاء زيارة البابا إلى نيكاراغوا واضحا في حالة التيقن من وجود"مجابهة للبابا". فقبل وقت قصير من تلك الزيارة، قام الرئيس ريغان بجولة إلى دول من أمريكا الوسطى، متجاوزا نيكاراغوا، إلا أن البابا لم يكن باستطاعته أن يفعل الشيء نفسه. وكحل وسط في خضم هذا التجاذب، اقترحت الحكومة حلا وسطا، حيث يقوم البابا بموجبه بتحية الوزراء عن بعد و بهذا الشكل لن يكون مجبرا على ملاقاتي. جاء الكاردينال سيلفستريني، الذي كان مساعد سكرتير الدولة حيث كان الكاردينال كاسارولي سكرتيرا، جاء أسبوعا من قبل لتريب اللمسات الأخيرة للزيارة. وقد اعترف (الكاردينال كاسارولي) أنه الحل الأمثل، و أننا سنطبقه كما هو. لكن البابا رآها بشكل مختلف.

بعد كل التحايا البروتوكولية، بما فيها تحايا الحرس الشرفي و العلم، طلب البابا من دانيال (أورتيغا) الذي مد له اليد إن كان بإمكانه أن يحيي الوزراء أيضا؟. رد عليه بطبيعة الحال بعبارة: نعم، و توجه نحونا. البابا مع دانيال و الكاردينال كاسيارولي صافحوا الوزراء، و حين اقترب مني، فعلت ما كان يتوجب أن يفعل في حالتي: نزعت قبعتي كرمز احترام، و جثوت لأقبل حزامه. لم يسمح لي بذلك، رفع إصبعه كعصا، وقال لي بأسلوب العتاب: " يجب أن تسوي وضعيتك"، و حين لم يصدر مني أي تعليق، عاد إلى تكرار تعنيفه. في الوقت نفسه، كل التلفزيونات العالمية كانت موجهة نحوي.

صحفي من جريدة " Atlantic Monthly " كتب حسب ما نقلت له، من أن والدتي التي جرحتها هذه الحادثة كثيرا، قالت لي:" كنت أعتقد انه يعاملك كأب". لا أذكر هذا بصراحة.

يبدو لي أن تلك المسرحية تم تحضيرها من قبل البابا، لتلتقط القنوات الدولية الحادثة مباشرة. الحقيقة أن تلك الصورة بثت في العالم بأسره، و ما تزال إلى اليوم. 19 سنة فيما بعد، علمت أن الصورة استخرجت ثانية بمناسبة زيارات البابا الأخيرة.

وبهذه المناسبة، كتب الأمريكي " بلاز بونبان" كتب رسالة مفتوحة إلى البابا، يقول له أن المواجهة التي فعلها معي كانت فضحية و أنه يتوجب أن يعتذر مني أمام العموم. ومن جهة أخرى، ذكره أنه يتعامل هكذا في نيكاراغوا و في السلفادور التي حظي فيها بالمعانقة على اغتيال صاحب السعادة "روميرو".

في الحقيقة، إن الإهانة التي مارسها البابا غير عادلة، لأنني كنت قد أوضحت موقفي من الكنيسة. كان لدينا التصريح من الأساقفة لممارسة مسؤوليات داخل الحكومة بصفتنا قساوسة. لقد تم إظهار ذلك عموما ( إلى أن منعنا الفاتيكان بعدها من ممارسة تلك المسؤوليات).

في الحقيقة ما كان لا يعجب البابا أكثر يتعلق بثورة نيكاراغوا، هذه الأخيرة التي لم تكن ضد الكنيسة. كان يفضل نظاما كذلك المتواجد في بولونيا، و الذي كان مناهضا للكاثوليك في بلد أغلبيته كاثوليكية، و بالتالي غير محبوب. كان متضايقا من الثورة المسنودة بكثافة من المسيحيين مثل ثورتنا، في بلد مسيحي، و بالتالي من ثورة شعبية جدا. و الأسوأ بالنسبة له، ثورة بمعية قساوسة.

لم يكن ! لم يكن ذلك نفس الكاردينال كاسارولي، سكرتير الدولة. استقبلني سنة من قبل في الفاتيكان. مكتبه المزخرف بإتقان، تحت مكتب البابا، في دور أكثر انخفاض. بدأ بالقول لي أنني أعرف بموقف الفاتيكان فيما يخص القساوسة الذين يحتلون مناصب وزارية، لكنه يعتقد أن نيكاراغوا يمكن أن تكون استثناء، لأنها كانت شيئا جديدا. كان يقول ذلك عادة في الفاتيكان: " في نيكاراغوا كل شيء جديد". سألني عن أخبار" سولنتينام"، و حين أخبرته أنني أرغب في التراجع للعودة إلى هناك، رأيت القلق في عينيه. قال أن قرارا بهذه الحساسية لا يمكن اتخاذه ببساطة، يجب التفكير فيه بعمق. بدا مدهشا حين أخبرته أن دور الأساقفة في الثورة لم يكن شرفيا، لكن أكثر بروزا في ثورة ما.

المستشار كان منصبا وزاريا الأكثر أهمية في حكومة ما، كما يبدو كنصيبه كسكرتير الدولة. كلفوا "فرناندو" بتدريب الشباب، الذين كانوا مستقبل الثورة. المتعلق بالثقافة، كان الوزير الأيديولوجي للثورة، المكلف بالنشر، الأدب، السينما، المسرح، الفنون البلاستيكية، الموسيقى، المكتبات، دور الثقافة. كرر علي أنني بحاجة إلى التفكير في حكاية رجوعي إلى " سولنتينام ". من جهته، ما كان يحبه أكثر هو إعطاء دروس في الفلسفة، لكنه اضطر إلى التخلي عن ذلك بموجب منصبه في الفاتيكان. أخبرني انه يعرف جيدا الماركسية، لأنه كان سفيرا بابويا في الدول الاشتراكية طوال ثمانية أعوام، و أنه لا يعترض على ماركسية لا تطالب بالإلحاد. أخبرته أن تلك هي ماركسية الثورة في نيكاراغوا.

الليلة التي سبقت قداس البابا في نيكاراغوا، في نفس الساحة، بينما كنا نضبط التحضيرات الأخيرة، شاركت الحكومة و الشعب في تشييع جنازة 17 تلميذا قتلوا على يد عصابات المنفصلين. كانت تلك الهجمة الأولى ذات مدى في نيكاراغوا. لم يكن الجيش منظما و كان الدفاع مسيرا من قبل شباب لم تكن لديهم التجربة العسكرية الكافية، و لا التسليح الجيد ( حين هوجموا، لم يقيموا و لا حتى حراسا). كان الدم طريا، لم يسمعوا و لا كلمة من البابا لصالح السلام.

في الدول الأخرى لأمريكا الوسطى التي زارها البابا، كان عدد الجموع يقدر بحوالي 75.000 إلى 100.000 شخص! لكن في "ماناغا" كان العدد يوازي 700.000! سافروا مسافة أيام ليشاهدوا و ليستمعوا إلى البابا. جاءوا من كل مكان من البلاد في شاحنات مكتظة بهم. كل "ماناغا" كانت ممتلئة بتلك الشاحنات الناقلة للناس. الناس الذين كانوا يحتشدون من الفجر تحت شمس حارقة. أقيم ذلك اليوم عطلة مدفوعة الأجر بمناسبة قدوم البابا و كان النقل مجانا في كل البلاد، كما في المناطق الأكثر بعدا.

في كل مكان من البلاد، ظهرت إلى النور لجانا متضمنة سلطات مدنية، عسكرية، و قس المكان، لتسهيل سفر كل من يريد الذهاب إلى "ماناغا"، و لجعل النقل مريحا للأشخاص المسنين أو المقعدين، مما كلف أكثر من 50.000 دولارا لنيكاراغوا الفقيرة قبلا. قامت الحكومة بكل ما عليها القيام به لجعل ساحة "ماناغا" ممتلئة وقت القداس، لأن هذا يعني أنها ستكون ممتلئة بالثوار.

هكذا، 700.000 شخص ملئوا المكان. تضم نيكاراغوا 3 ملايين نسمة، و هذا يعني أن ربع السكان كانوا حاضرين. أحزاب اليمين حملت من جهتها الكثير من الناس تقدر ب50.000 شخص يقودهم البابا كاربالو، احتلوا الساحة طوال الليل و احتلوا المقاعد الأمامية.

تفاجأنا بأن البابا في خطابه الذي ألقاه في المطار تكلم عن أشخاص منعوا من الحضور لملاقاته كما تمنى. و هو الذي كرره عدة مرات أثناء القداس بطريقة خاصة. ليُــفهم أن ثمة أناس لم يحضروا. هل كان بالإمكان حضور أكثر من 700.000 شخص؟ و بما أن تلك الخطب كانت جاهزة من قبل، مكتوبة في روما، كيف يمكن معرفة عدد الأشخاص الذي منعوا من الحضور؟

كنا غارقين في العرق في تلك الظهيرة من الرابع من مارس 1983. شهر "مارس" الذي هو احد الشهرين الأكثر حرارة في نيكاراغوا، و درجة الحرارة كانت تصل الى الأربعين درجة، لكن لا أحد كان يظن أن العقول ستزداد ثورة أبعد من 40 درجة حرارية أثناء القداس البابوي.

المفاجأة العامة أن القداس افتتح بخطاب رئيس الأساقفة "أوباندو". عمدت الثورة على ملء تلك الساحة بالناس، لأجل أن يخاطبهم العدو المحلف للثورة! أثناء المفاوضات المهيأة، و التي خلالها تم مراجعة أدق التفاصيل، بمن فيها التفاصيل غير المهمة، لم يكن ثمة أي إعلان أن الكلمة سيأخذها "أوباندو". و أوباندو رحب بالبابا مقارنا حضوره إلى نيكاراغوا بذلك الذي قام به " جون الثالث و الثلاثين" إلى سجن في روما.

صدمت بهذه المقارنة، كأن نيكاراغوا هي السجن، و شعرت بالصدمة أكثر حين صفق الحضور. هل تحول الشعب ضدنا؟
القراءات التي أقيمت أثناء ذلك القداس لم تكن بريئة. كان واضحا أن النصوص تم صياغتها ضد " الثوار الصاندينيين". من النسخة القديمة( الوصية القديمة) في الكتاب المقدس قرأ فصل صرح بابل:" أراد الرجال أن يتساووا مع الله. بالنسبة للوصية الجديدة، "الراعي الطيب": فقط المسيح يتساوى، البقية هم من اللصوص و قطاع الطريق.

موضوع الموعظة البابوية كانت وحدة الكنيسة، مما يعني الهجوم على " الكنيسة الشعبية"، أو " الكنيسة الموازية": المسيحيون الثوار متهمون بأنهم يحاولون تدمير تلك الوحدة.

كنت و فيرناندو جالسين معا في مقصورة حكومية، و وقتا قليلا قبل بداية القداس استدعاه "دانيال أورتيغا" ليقول لمجموعة من اللاهوتيين المجندين للوقوف في وجه أي " شيء عاجل"، أنه ليس هنالك ما يخشاه، و أنه قرأ خطبة البابا، و أنها ليست نزاعية. لكنه استخلص أنها لن تكون نزاعية إن قرأها بسرعة، لكنها مقروءة من قبل البابا. لم تكن العدوانية في الكلمات، لكن في اللهجة المتهمة التي نطقت بها. قراءة نص غير مؤذ شيء، و الاستماع إليه من البابا شيء آخر.

كان واضحا أن البابا يكره الثورة الصاندينية، و أنه حضر إلى نيكاراغوا للقيام بمعركة. كان مثيرا للضيق أن بعد كل جملة يقولها يرتفع التصفيقات من الجمهور منادية بحياة البابا. شعرت للحظة أن الثورة تنهار. قلت في نفسي أن الأمر سيستمر هكذا، مع كل أعضاء المقصورة الحكومية علينا أن نجمع حقائبنا على عجل. لكن فجأة، توقفت التصفيقات الكثيفة. الذين كانوا يصفقون لم يكن يزيد عددهم عم 50.000 يقودهم الأب كاربالو، و البقية بدأت تحتج على البابا. تضايقت فيما بعد من التوجه الذي أخذته الثورة في كل البلاد، و التي على أساسها لا يمكن إعطاء أي لائحة سياسية، فقط بالنداء بحياة البابا و التصفيق على ما يقوله. اعتقدنا أن خطبته سيكون لها طابعا شخصيا، الفاتكان هو من ضمن لنا ذلك في أكثر من مرة.

حين النظر إلى تسجيل الفيديو للقداس، يتم ملاحظة التغييرات المتتالية لسلوك المتواجدين في عين المكان. توقفوا أولا عن التصفيق، ثم بدأوا في الاحتجاج، و شيئا فشيئا بحديثه عن الكنيسة فهو يتكلم ضد الثورة. بالمقابل، ليس كما ادعى البعض فيما بعد عن هجوم مخطط له من الثورة ضد البابا، إنه البابا من هاجم أولا الثورة، مثيرا البلبلة في صفوف الشعب طوال عشرين دقيقة، ثم كانت ردة فعل الشعب.

كرر البابا في أكثر من مرة أن نيكاراغوا كانت بالنسبة إليه " بلده الثانية" ( بولونيا أخرى). هذه هي الغلطة الكبيرة، لأن نيكاراغوا ليست بولونيا. كان يفكر في النظام غير المحبوب، و المرفوض من قبل الأغلبية المسيحية، و أن معركته الحالية ستثير انقلابا شعبيا ضد قادة المديرية الوطنية و ضد الحكومة الموجودة في عين المكان. كأنه كان عليه فقط أن يتكلم ضد الثورة الصاندينية ليرى الدعم المكثف من تلك الساحة. وصل البابا إلى نيكاراغوا لزعزعة الثورة. إن لم يخطئ، فإن الأحداث الدولية ستكون بهذا الشكل: " شعب نيكاراغوا يرفض الثورة". و هذا يعني انهيار الثورة الصاندينية، كما كنت أخشاه في تلك الظهيرة. لكن الشعب دافع عن ثورته و رفض البابا، الأحداث الدولية كانت عبارة عن: " تحقير البابا في نيكاراغوا".

لم يحترمه الشعب، هذا صحيح، لكن في الأول يجب القول أن البابا هو من لم يحترم الشعب.
أمهات الأولاد ال17 الذين قتلوا طلبوا من البابا أولا خطبة تذكرية عن أبنائهم، و لم يستجب لهن. اقتربن بعد ذلك منه وأعدن طلبهن له بقوة. البعض طلب خطابا لصالح السلام، كانوا كثر و هم يصرخون " نريد السلام!". رد البابا على الحشد صارخا:" الكنيسة هي أول من يريد السلام"، ثم بينما كانت الاحتجاجات على البابا تتزايد، أخذ الميكروفون و بدأ يصرخ ملء حنجرته: " سكوت!"
انطلاقا من هذه اللحظة تحديدا، حدث اللااحترام التام. أراد البابا أن ينطق بكلمات التقديس، يعني أهم اللحظات في القداس، و لم يستطع ذلك، لأن الحشد كان يصرخ: " نريد السلام!" و " No pasarán ! ".

كانت ثمة نداءات بحياة الجبهة الصاندينية، بينما الآلاف من المناصرين اليمينيين الذين كانوا في المقصورة الأولى في الساحة كانوا ينادون بحياة البابا. في شريط من أشرطة الفيديو نسمع امرأة تصرخ: " ليس هذا البابا الفقراء. أنظروا لباسه!" اضطر البابا إلى الصراخ مرة أو مرتين " سكوت". لأول مرة في التاريخ الحديث يتعرض البابا إلى التحقير من قبل الجمهور. في أشرطة الفيديو يبدو البابا مضطربا بسبب الأحداث. في أكثر من مرة، بدا مهزوزا و على وشك ترك المكان. في نهاية القداس، لم تكن المباركة البابوية ممكنة. اضطر إلى ضبط النفس أكثر من مرة أمام الناس الذين كانوا يغنون النشيد القومي للجبهة الصاندينية.

التحق البابا مباشرة بالمطار بعد القداس، مصحوبا برئيس الأساقفة "أوباندو". أثناء الطريق لم ينطق أحدا منهما ببنت شفة. هذا الفصل نقله لي سائق السيارة الذي كان موظفا في وزارة الداخلية. كان البابا صموتا، و لم يتكلم، و لم يعلق على ما جرى.

في المطار أراد البابا الصعود إلى الطائرة متجنبا البروتوكول المعمول به في لحظات الوداع، لكنه أوقف. لم يسمح له بالمغادرة بذلك الشكل.
سفير نيكاراغوا في الفاتيكان، صديقي ريكاردو بترس، حكى لي أن في نهاية القداس، اقترب منه الكاردينال كاسارولي، بوجه مغلق ليطلب منه رأيه قائلا له: " جاء البابا ليطرح مرسوما سياسيا لنيكاراغوا و كان فخامته يريد النتيجة". بدا كاراسولي موافقا، أعلن أنه سيرى كيف سيصوغون ذلك في روما. لكن لا شيء حدث.

الكاردينال كاراسولي كان مناصرا له علاقات طيبة مع نيكاراغوا، و ربما سعد بما حدث، كان يظهر أن سياسة البابا خاطئة. تم إبعاده من مهامه كسكرتير الدولة ( الرقم 2 في دولة الفاتيكان، و الذي يعتبر البابا المحتمل) و تم إرساله إلى جهة بعيدة في ايطاليا أين لا أدري هل ستكون له الفرصة لإلقاء دروسا في الفلسفة التي يحبها كثيرا. بينما " أوباندو" فقد تم ترقيته إلى كاردينال، و قادما من روما، قبل أن يستقبل في نيكاراغوا، تقدم من عدد من المبعدين النكارغوايين في ميامي، أين تم استقباله بحفاوة.

الفاتيكان، و العالم بأسره، و العديد من القساوسة أعلنوا أن النظام الماركسي في نيكاراغوا ارتكب إهانة ضد البابا، و تم الحديث عن انتهاك حرمات وتدنيس القدسيات في القداس البابوي. في دول أخرى من أمريكا الوسطى التي زارها فيما بعد، تم إقامة قداس " إصلاحي". كان ذلك ريما بمثابة فقدان للثقة دولية بالنسبة للثورة. لكن، ماذا كان سيحدث لو استمر الشعب في التصفيق؟ اعتقد أنها كانت حالة أشبه بالتعميد، و الثورة خرجت منتصرة. لأنه شعب الذي تقدم أغلبيته كاثوليكية، و لم تكن لا السمعة، و لا السلطة الروحية للبابا قادرة على قلب الناس ضد رؤسائهم، بل على العكس، انقلب الناس على البابا.

في الولايات الأمريكية، كتبت جريدة " National Catholic Reporter " أنه في "ماناغا" رفض البابا الكلام عن السلام كما فعل في دول أخرى من دول أمريكا الوسطى، و أن الحشود عارضته كما فعل " يوحنا المقدس" مع البابا الأول.

لم يظهر قط في القداس الذي نشطه البابا في دول أمريكا الوسطى ألم يتكلم عن السلام، إلا في نيكاراغوا، التي كانت الأكثر ضرورة، لأنها كانت في مواجهة الحرب. لم يتكلم عن السلام، و لم يصلي على الضحايا. من جهة أخرى، دول أمريكا اللاتينية التي كانت تواجه عصابات المنفصلين كان البابا يتوجه بالكلام دوما إلى العصابات المسلحة لنصحهم بوضع السلاح. بينما لم يفعل ذلك في نيكاراغوا، التي تعاني من عصابات مسلحة ممولة من طرف ريغان، و كانت دعوته إلى السلام ستحظى بالكثير من الإصغاء لو فعلها، باعتبار فظاعة الجرائم التي كانت ترتكبها تلك العصابات.

بعد عدة أشهر تسربت وثيقة سرية إلى الجميع، مفادها أن البابا ألح لتطوير الوضع السياسي و ألكنائسي خلال زيارته إلى نيكاراغوا. علماء اللاهوتية الإسبان أعلنوا أن مظهر البابا كان يوحي بأن ما جاء في الوثيقة صحيحا، و أن من هنا توجد الإجابات على الاضطرابات في البلاد. المجلة الفرنسية " الأخبار الكاثوليكية الدولية " علقت: " هذا أشبه بتقرير صادر عن مجلس الأمن الأمريكي من أن يكون وثيقة رعوية. كل شيء طرح بصيغة سياسية و بأسلوب الند للند، ليس ثمة أي أثر للهموم الرعوية أو الإنجيلية".

اكتشفنا أيضا أن كاتب تلك الوثيقة هو "همبرتو بيلي" من نيكاراغوا، واحد من المتعصبين اليمينيين، الذين بعد انتصار الثورة قام بحملة إيديولوجية لجريدة " Prensa " في المجال الديني، عمل بشكل كبير مع صاحب السعادة " اوباندو"، و الذي فيما بعد نظم في الولايات الأمريكية حملة تشهير ضد الثورة الصاندينية و قطاعات الكنيسة التي تساندها. أطروحات "بيلي" المؤلفة بشكل جيد من طرف فرقة من الخبراء الأمريكيين قدمت إلى البابا، مع خلفية نحوية و تراكيب ذات خاصية انجليزية. انطلاقا من هذه الوثيقة تم صياغة الخطب التي ألقاها البابا في نيكاراغوا.

هنالك شيء آخر تركه الفاتيكان سرا، و القليل من الناس يعلمون به: البعثة البابوية كانت تحمل في حقائبها أكثر من عشرين صدرية واقية للرصاص. طلب من البابا بإلحاح ارتداء إحدى الصدريات أثناء القداس، و هو الشيء الذي رفض فعله. بالنسبة لي، هذه المعلومة كانت موحية: تعني أنهم كانوا على دراية بان البابا سيشعل النار في نيكاراغوا، و أن الإطاحة بالنظام كانت مدبرة و أنه كان ممكنا تعرضه إلى محاولة اغتيال.

الممثل العالي للنظام الديني المقرب جدا من الفاتيكان رفع حدة الاعتراف أن جون بول الثاني ( يوحنا بولس الثاني) حقود جدا، و لم ينس أبدا ما مورس ضده في نيكاراغوا. تم التأكيد من هذا عندما، سنوات من قبل، عاد إلى نيكاراغوا للانتقام من "الصندينيين" و لم يفوت فرصة لإهانة المسيرين الذين أهانوه، و الذين فقدوا السلطة السياسية بعد هزيمة انتخابية. جريدة " National Catholic Reporter " ذكرت هذه المرة أنه زار سجنا في روما ليعفو على شخص حاول اغتياله، و لم يكن قادرا على العفو عن الصاندينيين.

هذه المرة لو أن البابا قال أثناء قداسه الخاطف أنه من الآن فصاعدا كل من يرغب يستطيع التعبير عن إيمانه أمامه، دون أن يمنعه احد: حتى لو كان الناس في ذلك القداس قرابة الثلث مما كانوا عليها في زيارته الأخيرة. فقد تكلم عن نيكاراغوا كما لو كانت " ليلا دامسا"، وأن إن كان القداس دار في ظهيرة شديدة الحرارة.

صحيح، بالنسبة للعديد من الكاثوليكيين، في نهاية الظهيرة ابتعدوا عن الساحة المغطاة بالأوراق، لتهجم الظلمات على المكان, العديد من الناس دخلها الشك في إيمانها، البعض أضاعوا إيمانهم حتى.و ربما الذي استوعب الوضع كان بائع " الفول السوداني" الذي علق: " البابا لم يقل لنا شيئا، إنما ترك لنا فراغا."


ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: ياسمينة صالح جميع الحقوق محفوظة 2005©


تم صياغته تماما من قبل " Hoja Filosófica " رقم 6، الكلية القومية " Facultad de Filosofía y Letras. Departamento de Filosofía. Costa Rica ". النسخة الفرنسية: سيريل كابدوفييل، خاصة بشبة فولتير

[1بالنسبة للقارئ العربي الكريم: الصانديانية هي حركة فكرية ثورية تنسب الى "صاندينو" (1895-1934) وطني نيكاراغوي قاد حركة التحرر الوطني ضد القوات العسكرية الأمريكية المحتلة، والتي نظمت عملية اغتياله فيما بعد. والصانديانيون اليوم هم أتباع هذا التيار الوطني التحري في نيكاراغوا، والذين لا يتمتعون بعلاقات طيبة مع البابا ومؤسسته الفاتيكان.