طيلة العقود الزمنية المرهقة والممتدة منذ منتصف القرن الماضي والتي تميزت بظهور الحركات والجماعات السياسية والتنظيمية ذات الصبغة اليسارية او القومية العربية بشكلها المتطرف والتي فتحت الباب واسعا لموجة وعصر الانقلابات العسكرية التي ضربت العالم العربي والتي انطلقت موجتها الاولى بعد الحرب العالمية الثانية من دمشق تحديدا عبر انقلاب الزعيم حسني الزعيم في ربيع عام 1949! , رغم ان اول انقلاب عسكري في العالم العربي كانت بغداد مسرحا له في خريف عام 1936 وهو المعروف بانقلاب الفريق «بكر صدقي» ضد حكومة ياسين «باشا» الهاشمي !.

وكان لظهور حزب البعث في الحياة السياسية السورية وفي المشرق العربي عموما دور واضح في سلسلة الانقلابات والاضطرابات السياسية من خلال «الفكر الانقلابي» الذي كان يدعو للانقلاب على الذات !! وعلى الواقع «الفاسد»!!, كما ورد في الكتابات الهزيلة لمؤسس البعث (ميشيل عفلق)!!, والغريب ان «عفلق» ذاته قد وقع ضحية لاولى الانقلابات التي دعا اليها!!, فقد اعتقله نظام حسني الزعيم وعذبه بعد ان وضعه في برميل «مليء بالغائط»!! ليوقع صاحب الرسالة البعثية الخالدة تعهدا بترك العمل السياسي نهائيا!! وهو الذي كان حريصا على نظافته لكونه كان يقضي الساعات الطوال في الحمام فيما كان اتباعه ينتظرون مقابلته!!, وهذا الموقف المخجل قد ترك جرحا غائرا في نفسية مؤسس البعث لم يندمل رغم توالي السنين! ... ومع ذلك استمر «العفالقة» في حشد الانصار وكسب المؤيدين و اختراق المؤسسة العسكرية السورية , وحيث دخلت سورية في سلسلة الانقلابات الشهيرة التي ادخلتها في سلسلة من المشاكل الستراتيجية و دفعتها لفخ الوحدة مع نظام عبد الناصر الذي اجهز بدوره على كل مرتكزات و اسس الحياة الديمقراطية ووضع سورية فريسة لاحلام الضباط المغامرين , لياتي انقلاب البعث في اذار 1963 بمثابة التتويج المرعب لحالة الفشل السياسي المقيم , ولوقوع البلد باسره تحت هيمنة زمرة عسكرية وطائفية متخلفة ودموية انشغلت بصراعاتها الحزبية والشخصية والصراع على المناصب والامتيازات لتفقد سورية هضبة الجولان منذ صيف 1967 دون قتال!! وليستمر مماليك البعث المهزوم في صراعاتهم الدموية التي لم ينته فصل منها حتى يحل فصل اخر , وكانت المتغيرات التي جاءت مع الانقلاب قد كلفت الشعب السوري الكثير من الدماء والمعاناة والخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي حتى اضحت سورية بكل تاريخها وثروتها اقطاعية مستباحة لزمر من مماليك المخابرات وانكشارية الطائفة , واضحى قطط البعث السمان مثالا للتخمة المفرطة في زمن الجوع والفقر الشعبي السوري المدقع!! , وبات الالتصاق بالمنصب المتسلط حتى ازهاق الروح سمة من سمات حكم الفئة البعثية الباغية.

ورغم ان البعث قد انتهى كحزب وتنظيم فكري وسياسي منذ زمن سحيق الا ان السلطة العسكرية والطائفية حاولت تملك الشرعية من خلاله!! , وهي شرعية غريبة ومضحكة , فالشعارات خاوية من محتواها , والهيمنة استبدادية مطلقة , والممارسة عدوانية شرسة تعتمد اعتمادا اساسيا على تسليط الاجهزة الامنية وتحكمها برقاب العباد , وكان الحزب وما زال مجرد شماعة ويافطة للسلطة , ولكنه كان الاطار الذي يجمع طموح اهل الحكم في الدعاية القومية ومحاولة التمدد الاقليمي وكانت تشكيلات «القيادة القومية» للحزب تعبيرا عن الطموح التبشيري البعثي في العالم العربي وهي رافد مهم من روافد الدعاية البعثية في رعاية التنظيمات الحزبية في العالم العربي ودعم عناصرها التي تدين بالولاء للسلطات السورية وتعمل سرا على تدبير انقلابات في العالم العربي بهدف تحقيق «وحدة البعث والوطن العربي» !! والطريف ان البعث وهو يدعو لوحدة العالم العربي قد فشل فشلا ذريعا في تحقيق وحدته الداخلية منذ الانشقاق الذي قادته اللجنة العسكرية ضد قيادة الحزب التاريخية في 23 فبراير 1966 وكان انقلابا دمويا رهيبا شطر الحزب لشطرين سوري مازال يحكم , وعراقي حكم وساد ثم باد!! وبسبب انشقاق الحزب شهد العالم العربي واحدة من اعقد واشرس النزاعات بين سورية والعراق والذي استمر لثلاثة عقود طبعت العالم العربي بصورة الخلافات الدائمة التي كانت خلافات شخصية وليست مبدئية لخلو البعث من المبادىء!!, وكانت القيادة القومية العراقية وبفضل امكانيات الدولة العراقية اكثر قدرة على توفير وحشد الولاءات البعثية في العالم العربي وحيث كانت التنظيمات البعثية التابعة للنظام العراقي منتشرة في العالم العربي من الخليج العربي وحتى جنوب الجزيرة العربية وشمال افريقيا! , فيما كانت القيادة القومية السورية تنتشر في لبنان اساسا من خلال الرفيق عاصم قانصوه او في التنظيمات الفلسطينية المسلحة من خلال تنظيم الصاعقة المعروف !, والقيادة القومية العراقية وكما هو معلوم قد تشردت اليوم وانتهت بالكامل , فيما بقيت القيادة القومية السورية مجرد واجهة ركيكة لتنظيم حزبي شكلي وركيك وكانت تعتمد اساسا على زمرة من البعثيين اللبنانيين او العراقيين من خلال «قيادة قطر العراق» المتورطة اليوم في دعم العمليات الارهابية الجارية في العراق , وكانت قيادة «عبد الله الاحمر» في القيادة القومية مثالا حيا للغباء الفكري والتنظيمي , وحيث يبدو ان مؤتمر البعث القومي القادم سيشيع تلك القيادة القومية المسخ لمثواها الاخير , خصوصا وان تلك القيادة غير فاعلة بالمرة على المستوى القومي بل تحولت في ضوء محاولات التقارب مع الاميركان لعبء ستراتيجي من شانه عرقلة اي خطوة للتقارب المنشود , ففي ظل حسابات الربح والخسارة التي يتقنها النظام السوري جيدا , يبدو واضحا ان قيادة الحزب القومية قد حذفت من برامج الحزب المستقبلية , وباتت مسألة الغائها والتخلص منها امرا ستراتيجيا لا مناص منه ! ... فلتعويم النظام و اعادة

مصادر
السياسة (الكويت)