ما زالت هيمنة الامبراطورية الأمريكية تضع قوالب للسلوك السياسي في عالمنا، حتى بدا طبيعيا أن يفترض أن يختزل العربي في بلادنا الى داعم لشارون ضد من هو أكثر يمينية، او داعم لجناح في حزب العمل ضد جناح آخر، في مرحلة تتلخص بموجب قواعدها المهمة التاريخية لهذا الحزب في دعم شارون ضد خصومه من اليمين الاكثر شارونية من شارون. ويستطيع العربي الذي يرى كيف تنهب القدس من تحت أرجله أن يعزي نفسه أنه غير مضطر الى اتخاذ قرارات المواطن العراقي السياسية اليومية بشأن ذهاب ابنه أو ابنته الى المدرسة، أو أنه لا يحتاج الى اتخاذ قرار لمن سوف يصوت في الانتخابات اللبنانية.

خيارات المرحلة الأمريكية كوجه المرحلة. ولكن لا حاجة لمرارة نصف الكأس الفارغ، فالمرحلة الأمريكية تعرض خيارات أخرى على من لا يريد أن يحصر اهتمامه بالسياسة او بخروج او عدم خروج الابناء والبنات الى شوارع تدور فيها حمامات دم، او مهرجانات نصب واحتيال. بإمكانه مثلا ان يؤسس ناديا لمعجبي مايكل جاكسون.

وإذا قررت ان تهرب الى عالم وثقافة وسائل الإعلام الجماهيرية من أو. جي. سمسون وحتى جاكسون مرورا بديانا وجنازة البابا وغيرها من شؤون المشاهير التي تخرج كدراما، لا بأس من أن تتزود ببعض الملاحظات لكي تمنع نفسك من ان تبدو مثل أحمق يتابع خلسة أو علنا ما يجري في عالم النجوم المصنوع أمريكيا.

من بين أدواره الكثيرة يلعب التلفزيون في هذا العصر أيضا دور ثقب باب لممارسة انحراف البصبصة والاهتمام بشؤون الناس الخاصة: مأكلهم، ملبسهم، غرف نومهم، انحرافاتهم الجنسية. مع الفرق ان التواطؤ بين وسيلة الإعلام والمشاهير يسبق التواطؤ بينها وبين المشاهد. فما معنى “نجم” اذا لم يهم الناس ما يقوم به. ضريبة الشهرة من هذه الزاوية هي في الواقع امتياز. اما المشاهد فتتم تربية انحرافاته وغبائه علناً. الغباء يطرح كنوع من الخيار وتحقيق الذات. تبرز وسائل الإعلام الهستيريا الغبية والحمقاء متى شاءت كنوع من تحقيق الذات الفردية، مع أنها عكس الفردية بحكم تعريفها لأنها مفصلة جماهيرياً. ومن رابطوا أمام المحكمة، خيموا هنا طيلة أشهر هم في الواقع يحققون ذواتهم على هذا النحو. المساواة بين هذه الحماقات وبين أشكال تحقيق الذات تعتبر العالم مجرد “ريالتي” ينتجها ال”ريالتي تي في”.

بغض النظر اين نسكن، في سلوان أو بيت سوريك أو القاهرة أو الفلوجة، جميعنا تعرضنا في نهاية نشرات الاخبار او بداياتها الى صورة رجل كان أسود ويبدو كأنه مبيض بالكلور في دعاية لمسحوق غسيل، يمشي مشية عجيبة مجمدة تحت شمسية بثياب مارشال لدزاينر خاص، وخلفه وأمامه وعلى جانبيه غوريلات بشرية ببدلات غامقة اللون ونظارات شمسية. يتحركون سوية كما في فيلم صور متحركة من سيارات سوداء مظللة النوافذ الى قاعة المحكمة. ويتعالى هتاف المعجبين والمعجبات بهذه الظاهرة كلما مرت من أمامهم. والكائن الغريب الشكل في الوسط يبدو مخيَّطا أو مفصَّل الملامح بحيث يصعب تمييز الابتسامة عن الحزن، عن الشعور بالقرف لأن القطب الجراحية التي تصل بين ملامح وجهه تقيد حرية حركتها فتوحدها في نفس التعابير. ويبدو أن الأنف قد تعرض إلى عدة عمليات جراحية حتى اختفى تماما ولم يبق منه إلا ثقبان بين الفم والعينين. وما دمنا قد خضنا في الموضوع فلنحرر خيالنا قليلا: لماذا لا نفترض مثلا أن الرجل الذي تعرض الى مثل هذا العدد من العمليات التجميلية الجراحية والنقع بالكلور قد ادمن على العمليات فركبوا له أنفا جديدا ضخما لكي يبدأ العمليات من جديد؟ أي أنه اضيف الى انحرافاته المتعددة انحراف جديد هو حب العمليات التجميلية. الرجل باختصار اصبح “ممحون عمليات تجميل”. وأصبحت هذه بذاتها ميزة، خفة دم، خصوصية من الخصوصيات التي تجعله “سليبريتي”. طبعا ليس هذا الانحراف الجديد منتشرا. فالفقير حتى لو ولد بانحراف كهذا لا يستطيع ممارسته. وحتى الميسور او الميسورة الحال تستطيع أن تسمح لنفسها بعملية أو اثنتين، تخفيهما أو تتباهى بهما، وانتهى الموضوع. أما التحول إلى ممارسة العمليات الجراحية كنمط حياة فهو انحراف مكلف جدا. والثري المنحرف ليس مجنونا، خلافا للفقير، بل هو “نمرة”، “غريب الاطوار”، “اكسينترك”، “مختلف، غير شكل”. وقد يزيد هذا كله من جاذبيته لكي يمارس المعجبون ذواتهم بواسطة الاعجاب به. والحرية الأمريكية تتيح الكثير من الخيارات بين سليبريتي وآخر.

وفي خضم النزاع حول شخصية او حقوق او امتيازات هذه الشخصية المتعددة الانحرافات نسي الناس ان الحديث هو عن رجل عمره 46 عاما يشارك سريره مع اطفال بملابسهم الداخلية. لم يكن هذا “الموضوع السخيف” هو موضوع المحاكمة. بل “السيلبريتي” كان هو الموضوع.

في حينه اعتبر كليشيه إعلامي محاكمة أو جي سمسون “محاكمة القرن”. ولكن منذ تلك المحاكمة تكاثرت محاكمات القرن مثل الفطريات: مارثا ستيوارت، روبرت بليك، كوب برينت، ومحاكمة فيل سبكتور االمقبلة بتهمة القتل واعتقال راسل كرو أخيراً بتهمة ضرب موظف فندق بهاتفه، حتى تحولت محاكمات المشاهير واعتقالهم وتورطهم في قضايا عنف او مخدرات الى نمط أدبي، او للدقة الى “جنر” إعلامي. (شون هبلر، لوس انجلوس تايمز، 12 يونيو/ حزيران 2005). ويجتمع في هذا “الجنر” جمهوران استحواذيان، جمهور متابعة المحاكم وجمهور متابعة النجوم. عدد المشاهدين في حسابات وسائل الاعلام مضمون إذاً. وتعود قلة جاذبية محكمة جاكسون ضمن هذا النمط الى ان المحكمة قررت اقصاء الكاميرات خارج المحكمة، وإن الجنس الذي يتم تناوله فيها هو من النوع المحرج الذي يحاول المرء تجنب التفكير به، ناهيك عن الانجذاب اليه. ومع ذلك تابع محاكمة جاكسون في سانتا ماريا، كاليفورنيا 2000 صحافي من 34 دولة. أي أكثر من عدد الصحافيين الذين تابعوا فلسطين والعراق ورواندا وبوروندي واقليم دارفور وكشمير والشيشان في موقع الحدث في أي لحظة معطاة. والحديث هو عن محكمة لم تجذب الكثيرين. أي صحافة، وأية حرية صحافة؟

فيما عدا شخصية النجم ذاته يتألف نمط دراما محاكمات المشاهير من العناصر التالية:

1 “فريق الاحلام”، “دريم تيم” من المحامين. وقد اصبح هذا مصطلحا قائما بذاته. محام لقيادة الدفاع داخل المحكمة وآخر للإعلام وثالث للإعداد وهكذا. ويتفاخر المحامون ايضا بكونهم شراً لا بد منه وبقدرتهم على تبرئة موكلهم بغض النظر عن الوسائل. محامية الدفاع سوزان يو مثلا أطلقت أخيراً الكليشيهات التالية: «الناس لا تعرف من هو مايكل جاكسون لقد امضيت وقتا طويلا معه، لم أر في حياتي شخصاً حساساً بهذا الشكل، انه غير قادر على فعل اي من الافعال المنسوبة اليه (“نيويورك بوست15 يونيو/ حزيران 2005”».

2 بطارية المشاهير الذين يأتون للدفاع والتضامن. وتركز عليهم الكاميرات. وهي ايضا فرصة لهم لممارسة نجوميتهم وللتظاهر بكليشيهات مثل عدم التخلي عن صديق والوقوف معه في وجه الآراء المسبقة، وغيرها من الكليشيهات التي تشكل بذاتها آراء مسبقة: جو لينو الكوميدي، وجيسي جاكسون الذي تحول في العقد الاخير من قس وسياسي الى كوميدي مبتذل وباحث عن دور ونقود بأي ثمن. وهو ايضا مثل محامي جاكسون يوجه لمغني الروك نصائح علنية لأغراض الظهور بمظهر الموضوعية من نوع “ان هذه فرصة لمايكل لكي يغير سلوكه الغريب مع الاطفال والصبية” «نيويورك تايمز 13 حزيران/ يونيو 2005».

3 المعجبون والكارهون، يتظاهرون خارج المحكمة وأمام بيت النجم. والشعارات والقبعات والكنزات والبالونات اصبحت عدة مألوفة. وبرزت أخيراً معجبة تركت عملها في حضانة أطفال «انتبه أين تعمل!» لتتحول الى معجبة متفرغة. وطيرت أخرى حماما ابيض من قفص بعد الإعلان عن براءة المتهم من عشر تهم تتعلق جميعها بمضايقة الاطفال جنسيا.

4 الدوامة الاعلامية. تحويل المحاكمة الى spin نوع من السيرك الإعلامي تضيع فيه حدود رصانة المحاكم المفترضة وتطمس فيه اعتباراتها المألوفة.

5 البحث عن المعنى العميق للمحاكمة على لسان عدد «المعلقين الجديين» أو المتظاهرين بالجدية والمنقسمين الى معسكرات في برامج الثرثرة او في النشرة الاخبارية بعد اذاعة الخبر. العنصرية، الجنس، الطبقة، فساد الشرطة... وغيرها. في حالة جاكسون كان الموضوع ببساطة هو النجومية.

6 خلط كل ذلك سوية عند سماع القرارين عندها يتحرك الجمهور وتبشر ضوضاء مروحيات وسائل الاعلام التي ترافق قافلة جاكسون من مزرعته الى المحكمة بوصوله لسماع القرار، وصوت القاضي رودني ميلفيل وهو يقول: مستر جاكسون كفالتك ألغيت وأنت طليق. بعدها تقرأ الشعارات التالية على موقعه «الرسمي» على الويب: «Martin the site decalred «Innocent» «بريء»، «جدار برلين يسقط»، «مارتن لوثر كينج يولد»، «نلسون مانديلا حر». صدق أو لا تصدق.

واهتمت وسائل الإعلام الغربية وذكرت في نشراتها اذا ما كانت الفضائيات العربية قد قطعت بثها لتبث فقرات من قرار التبرئة في النهاية. وعلينا ايضا ان نسمع شخصاً «اسرائيلياً» سمجاً يدعي أنه عراف وأنه صديق جاكسون النفسي وأنه صرخ على جاكسون: «بوقاحتي الاسرائيلية» المعروفة صرخت عليه: مايكل! عليك ان توقف عادة ادخال اي ولد الى بيتك” دون أن ينسى التشديد على براءة جاكسون الطفولية وتحوله الى طفل مع الأطفال. وعنوان على زاوية رأس الصفحة الاولى في صحيفة فلسطينية في المناطق المحتلة، وطبعا عنوان رئيسي في صحيفة بيلد الالمانية: «براءة». ومارتن ستوك «شخص ما» مؤسس نادي معجبي جاكسون المؤلف من اربعين عضوا يقول ما يلي: «المحكمة برمتها مثيرة للسخرية وقد عومل مايكل بشكل لا انساني، حاول الناس رميه في السجن وسرقة ماله» وفي المكسيك قال شخص ما، شخص ما مثل كل «الشخوص الما» التي تذكرها وسائل الإعلام من هذه الدول من اجل الاقتباس، قال رودريجو مانديز، موظف في مكتبة في المكسيك (لماذا مكتبة؟ لماذا المكسيك؟ لماذا رودريجو؟): «اعتقد ان تصرفاته غريبة ولكنها ليست منافية للقانون».(تجد مثل هذه التصريحات الغريبة من كل أنحاء العالم على موقع نيوز راديو 15 يونيو/ حزيران ،2005 مثلا، وعلى مئات غيره). وقد وصلت العولمة الاستحواذية الاضطرارية الى الصين حيث علق ال «دي جاي» من راديو انترناشونال في الصين بلهجة عملية تتلاءم والرأسمالية الصينية الجديدة التي لا تأبه كثيرا بنوع التهم: «التهم هي ضربة لصورته الاعلامية، ولكن اذا استمر بإنتاج موسيقا جيدة فسوف ينسى الناس» «موقع سي بي اس نيوز، 14 حزيران 2005» رجل عملي جدا. وهكذا تأخذ وسائل الاعلام من كل بستان زهرة، او من كل مزبلة عينة، بحيث يفرض الاهتمام على العالم فرضا كأن الصين تحلم بمايكل جاكسون. المهم أن عليها أن تحلم.

ويعلق الناس بصراحة انه يبدو انه في حالة قضية جاكسون المشابهة من عام 1993 كانت هنالك اثباتات ولذلك دفع جاكسون 20 مليون دولار للعائلة دون محاكمة ولإسقاط الدعوى، أما في هذه الحالة فقد برئ جاكسون لنقص في الادلة، ونتجة للشك في طبيعة الامهات اللواتي يبعثن بأبنائهن للنوم في بيت رجل معروف بأنه ليس منحرفاً فقط بل متعدد الانحرافات. وهذه تعليقات وجيهة.

وحتى في المعسكر الذي غضب على تبرئة جاكسون يصعب ان نجد موقفا ضد اللا عدالة بشكل عام، أو ضد اغتصاب الاطفال واستغلالهم عموما في المجتمعات الحديثة وعلى هوامشها. بل هو موقف من وقاحة المشاهير وامتيازاتهم وليس من انعدام العدالة بشكل عام. وحول عدم كفاية الادلة انتبهت قلة فقط الى ما انتبه اليه اندرو واكس في «نيويورك تايمز» عندما قال ان القاضي يستطيع ان يحذر المحلفين ولكن هل يستطيع ان ينزع من رؤوسهم مفهوم الدليل القانوني الذي دخل الى رؤوسهم من مسلسلات القانون والجريمة وكأن الدليل يجب ان يكون عينات من «دي. ان. إي» المتهم؟ «نيويورك تايمز 15 يونيو/ حزيران 2005». وفعلا يبدو ان الإيجابية الوحيدة من التبرئة في هذه المحاكمة انها وفرت علينا مسلسلاً إعلامياً أطول حول جاكسون في السجن ونكات مقرفة حول الاغتصاب في السجون.

هل هذه هي الخيارات؟ ربما كان التحدي هو تربية طرح معنى الحياة الفردية وتحقيق للذات خارج هذه الخيارات. هذا هو تحدي هذا النوع من «الأمركة» في أمريكا وخارجها.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)