التقيت قبل فترة صديقا من أيام السجن، فسألني مؤنباً: لماذا تدعو إلى المصالحة الوطنية، بينما لا تصح في أيامنا هذه غير الدعوة إلى الحرب الأهلية؟ عندما لاحظ دهشتي، أضاف بلهجة متحدية: أذكر لي بلدا واحدا خرج من تأخره وبلغ الحداثة والتقدم والديمقراطية دون حرب أهلية: هل بلغت فرنسا حريتها بغير حرب أهلية؟ وهل تحررت روسيا من القيصرية ودخلت عالم الحداثة إلا بعد حرب أهلية؟ وهل صارت أمريكا ما هي عليه إلا بفضل الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، التي قتل ربع سكانها خلالها؟ وهل غادرت الصين العصر القديم إلا بفضل حرب أهلية استمرت سبعة وعشرين عاما وقتل فيها نحو خمسين مليون صيني؟ ألا تقنعك أمثلة التاريخ هذه بأن الحرب الأهلية العربية هي العلاج الوحيد المتبقي لنا، وأنها بقدر ما تكون قاسية ومؤلمة ومكلفة تكون أكثر فائدة وجذرية لنا. توقف، إذن، أيها الضال، عن حديث المصالحة والمخرج الديمقراطي، وابدأ الترويج للحرب الأهلية، إذا كنت تحب حقا أمتك العربية وتريد لها الخير.

بعد أيام، التقيت أصدقاء. عندما حدثتهم باستغراب عن القصة، وافقوا جميعهم تقريباً على رأي صديقي، ولاموني لأنني أستنكر واستغرب ما قاله، وأصر على رفض الحرب الأهلية بما هي علاج وحيد لأمراض عرب بلغوا الحضيض، ولم يعد لديهم ما يخسرونه بالحرب الأهلية غير أغلالهم. حين حاولت الاعتراض، قاطعني واحد منهم قائلا: الأمة العربية ضعيفة، وشعوبها ومجتمعاتها مجزأة، أما نظمها فهي فاسدة، لكنها أقوى منها بكثير، بينما يغزوها الخارج مستغلا السانحة التاريخية: سانحة عجزها عن المقاومة، ورغبة نظمها الضعيفة تجاهه في خطب وده وتحقيق مطالبه وتقديم الخدمات له، فماذا يمكن أن يكون الحل في وضع مأساوي كهذا: هل هو في المناداة بمصالحة بين مجتمع ضعيف ونظام قمعي، أفسده وقتله؟ أم هو في تصالح النظام الضعيف مع الخارج القوي، القادم لاحتلال الأوطان والاستيلاء على ثرواتها وحريتها؟ ليس هناك من حل في الوضع الراهن غير خلط الأوراق بطريقة مبتكرة، وإيجاد طريقة تضعف نظم الفساد وتستهلك قواها وتقضم وجودها وتردع، في الوقت نفسه، الخارج القادم على ظهر القوة. هل لديكم، أنتم أهل المصالحة الوطنية والخيار الديمقراطي، من حل غير حرب أهلية طويلة ومؤلمة، تنتهي بإبادة كل ما هو قديم وفاسد في دولنا ومجتمعاتنا، يكون من سيبقون إلى نهايتها حملة المستقبل العربي وتقدم ووحدة الأمة العربية؟

صعقتني المفاجأة، وأذهلني وأخافني ما صار إليه جيل سد النظام العربي في وجهه الآفاق والدروب، وقطع صلاته بالحياة العامة، خاصة منها الحياة السياسية، وفرض عليه البطالة والهامشية، وأفقده الثقة بالحكام، شحن الفساد قلبه بحقد أعمى على كل ما هو قائم، وملأه الازدراء الذي يعامل به بنقمة لا حدود لها على الأحزاب والسلطات والزعماء وكل ما ومن يمت إليها وإليهم بصلة، فلم يعد لديه أي خيار غير تدمير نفسه وعالمه، غير إيمان حانق بحرب أهلية، يوهمه انعدام المعرفة والخبرة السياسيتين أنها حل إجباري وسهل، يستطيع وحده كنس الأرض العربية من كل ما ومن يعد مسؤولا عن بؤسه الراهن أو ضالعا فيه، وفتح طريق المستقبل والخير أمام من سيأتون بعده، لأنها ستفضي إلى إفناء متبادل بين الشعوب والحكومات، يضع حدا للإفناء الدائم، الذي تتعرض له الشعوب على يد نظمها المستهترة، التي لا تتجاهل مصالحها ولا تحترم حياتها أو تلبي حاجاتها.

هل أوصلت النظم المواطن العادي، الذي يبدو عديم الاهتمام بالسياسة والشأن العام، إلى حال تجعله يرى في تدمير ذاته والعالم حلا وحيدا لمشكلات وأزمات يؤمن إيمانا جازما أنها لن تحل في ظل الأمر العربي القائم ومؤسساته؟ أليس أمراً مقلقاً أن يقتنع الشباب العربي بأن الفناء صار طريق النجاة الوحيد، وأنه بقدر ما يكون عاماً وشاملاً يكون أفضل؟ وأن من الخطأ البحث عن نجاة خارج العنف، الذي يجب أن يصل إلى أقصى مدى يمكنه بلوغه، لأنه ليس وسيلة بل هو غاية بحد ذاته، يرتبط به المستقبل الشخصي والفردي للمواطن العربي، الغارق في لجة يأس لم يترك له غير الرغبة في إبادة عالم أشقاه وأفرغ حياته من أي معنى أو غاية، فلا أقل من أن يقوم هو بتدميره وإفنائه، ومن أن ينسف جسور التفاهم والتصالح معه، ويكره ويمقت من يدعونه إلى قبوله!

قال أجدادنا بحق: ليس هناك ما هو أسوأ من الظلم غير الفوضى. عندما تصير الفوضى العامة والشاملة، أمل الأجيال العربية، يصير من الضروري أن يتوقف الفكر وأهله، وأن تنشغل السياسة وناسها، في الأحزاب والسلطة، بهذه الظاهرة الخطيرة، التي تبين كم غدا باب الخراب العربي مفتوحا على مصراعيه، وتضيف إلى أشكاله الرسمية الرهيبة أشكالا “شعبية” فظيعة، سيهلك الوطن العربي إن غرق فيها، ليس فقط لأن الأشكال الرسمية ساقتنا إلى مأزق قاتل دفع بالأجيال العربية الجديدة إلى تبني موقف هلاكي وعنيف، بل كذلك لأن الأسباب، التي تدفع بهذه الأجيال إلى القطيعة مع عالمها الراهن وتجعلها راغبة في تدميره، محقة وشريفة وعادلة، ذلك أنه من حق العربي التخلص مما يعانيه من ألم، ويعيشه من إذلال، ويشعر به من نقمة وحقد، ويتعرض له من موت بطيء.

الحرب الأهلية كحل!. هل يحق لأحد منا أن يجعل غفلته ملجأ يحتمي به من الآن فصاعدا؟ وهل يحق لحاكم أو لمثقف أو لحزبي البقاء مطمئنا، بينما تدفع المشكلات، التي فرضتها النظم القائمة على مجتمعاتها عموما، والأجيال الجديدة منها بوجه خاص، إلى مطالبة بالحرب الأهلية، وإلى فلسفتها وتقديم مبررات تريد إقناعنا بضرورة وقوعها؟!

متى يتنبه العرب ويستفيقون؟ ومتى يرون الواقع بأعين النزاهة والتجرد ويعالجون مشكلاته بإرادة صادقة ومخلصة؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)