يوم للتهاني في لبنان ويوم للتعازي. كان الأحد يوم التهنئة بانتهاء الانتخابات النيابية. أما الثلاثاء فيوم التعزية باغتيال الشهيد جورج حاوي. بالأمس كان يتقبّل التهاني وغداً نسير في تشييعه. هناك مَن يريد أن يستنتج من هذا التجاور الزمني أن ما يجري هو كناية عن <<تصحيح أمني لخلل سياسي>>. ربما كان هذا صحيحاً. إلا أنه لا يكفي جواباً عن معضلة ملحّة: ماذا يفعل لبنان بانتخاباته؟

إن مجرى العملية الانتخابية (التحالفات، السجالات، الانقسامات، النتائج) يفرض حقيقتين متلازمتين: إن سعد الحريري محكوم بأن يكون، في صيغة أو بأخرى، في السلطة، وميشال عون محكوم بأن يكون في المعارضة. وفي اليوم الأول بعد انتخابات الشمال الحاسمة أعلن الحريري أن التغيير حصل، وأن ثمة أكثرية وأقلية جديدتين، وألمح إلى ما يراه ضرورياً لمستقبل البلد. وأقدم عون على شن هجوم قاس على الفائزين، متهماً إياهم بعدم الجدارة في الإمساك بمقاليد المصير الوطني، ومعلناً أنه مقيم في المعارضة.

تشير حصيلة الانتخابات إلى أنه من حق المواطنين التوجه بأبصارهم إلى تحالف الحريري جنبلاط، وانتظار المبادرة منه. ويعني ذلك، عملياً، أن السؤال المطروح على هذا التحالف أشد صعوبة من ذلك المطروح على عون.

لقد باتت حكومة <<الاتحاد الوطني>> صعبة، لا بل صعبة جداً. وكان التصور السابق، قبل أسابيع، أن قوى 14 آذار ستلتقي وتضم إليها القوى ذات الوزن التمثيلي في عين التينة (القوى الشيعية حصراً) من أجل تشكيل حكومة الوحدة أو الوفاق التي حُرم لبنان منها في السنوات الماضية. يمكن لهذا التصور أن يبقى على قيد الحياة، ولكن لم يعد وارداً تسمية ما ينبثق منه ب<<الوحدة الوطنية>>. إنها، بالأحرى، حكومة أكثرية. حكومة تحالف نواته تيار <<المستقبل>> المؤتلف بشكل وثيق مع <<اللقاء الديموقراطي>> والمتحالف مع <<قرنة شهوان>> (<<القوات اللبنانية>> ضمناً). ولقد أظهرت الانتخابات أن التيار العوني إن لم يكن احتكر التمثيل المسيحي فهو اقترب كثيراً من ذلك بحيث يمكنه الزعم بأنه الناطق باسم التيار الغالب ضمن هذه البيئة. إن هذا الواقع المستجد هو، على الأرجح، أحد أهم <<اكتشافات>> الدورتين الانتخابيتين الثالثة والرابعة. والاستنتاج من ذلك هو أنه لا معنى لحكومة <<وحدة وطنية>> من دون <<التيار الوطني الحر>>. وإذا كانت الأكثرية ستعمد إلى تمثيل حركة <<أمل>> وربما <<حزب الله>>، فإن ذلك سيعيد إنتاج الوضع المشكو منه منذ 15 سنة: حكومة المسلمين الأقوياء والمسيحيين الضعفاء.

أضف إلى ذلك أن صيغة حكومة انتقالية جديدة غير صائبة سياسياً. لقد أدت حكومة نجيب ميقاتي دورها. كانت انتقالية بمعنى أنها كانت تمهيدية لوضع جديد. وها نحن في صلب هذا

الوضع الجديد. صحيح أن ثمة وزراء يتمنى المواطن استمرارهم ولكن الأصح هو أن البلاد كلها باتت تتطلب مهمات مختلفة جذرياً لا تصلح معها كلها تركيبة من هذا النوع. ومَن كان يملك رأياً مخالفاً فإن اغتيال جورج حاوي، والسجالات التي تبعته، تؤكد على أن ترتيباً معيناً للأولويات يفرض نفسه.

إن حكومة شبه محايدة وشبه متوازنة (بين الرئيس إميل لحود وخصومه) يمكنها أن ترد على عدد من مطالب الخارج لجهة الإصلاح السياسي والاقتصادي. غير أن ذلك ليس أقل من خيانة لمعنى إجراء الانتخابات ولنتائجها. فضلاً عن أن المواجهة المفتوحة بين رئيس الجمهورية ومَن يدعمه وبين الأكثرية الجديدة، تدور، بين أمور أخرى، فوق مساحة المسألة الأمنية. ومن المشكوك فيه أن توكل إلى حكومة من هذا النوع مهمة خوض المعركة الضارية المندلعة فعلاً.

لا تملك الحملة الانتخابية التي خاضها الحريري وجنبلاط إلا نهاية منطقية واحدة: استلام السلطة، كل السلطة. فالزعيم الدرزي محق تماماً في رفع هذا الشعار. لقد أطلقت وعود كثيرة ببرنامج شامل اقتصادياً وأمنياً وسياسياً. وطُلبت ثقة الناس استناداً إلى ذلك فأعطوها. وتمّ الإصرار على انتزاع أكثرية مريحة ولو أدى ذلك إلى ما حصل في بعبدا عاليه والشمال. ووُضع المواطن أمام خيارين مجتمعين متناقضين جذرياً... وأسفر الأمر كله عن تفويض شعبي واضح لفئة معينة. إن هذه الفئة محكومة، سياسياً وأخلاقياً، بأن تتقدم نحو ممارسة مسؤولياتها.

لا نعرف قرار سعد الحريري بعد. نعرف أن هناك مَن ينصحه بألا يترشح شخصياً لترؤس الحكومة. والحجة المقدمة سنداً للنصيحة هي أن لحود مصرّ على موقعه وموقفه، ما يعني أن ثنائية ستنشأ وأنها ذات مفعول سلبي على الجديد، أي الحريري، طالما أن القديم، أي لحود، ضاقت قاعدة سلطته. يُقال في هذا المجال إن مجلس الوزراء سيتحوّل إلى موعد أسبوعي بين النار والبارود. ولقد أعطى البيان الصادر أول من أمس عن رئاسة الجمهورية فكرة عمّا يمكن أن يحصل. إنه بيان يشن هجوماً عنيفاً على كل من وليد جنبلاط وغازي العريضي والياس عطا الله. فماذا لو أرادت الأكثرية الجديدة توزيرهم؟ كيف يتعايشون مع رئيس يصر على المواظبة في حضور جلسات مجلس الوزراء؟ أين هي الحدود الفاصلة بين الصلاحيات؟ هل يقدم <<الطائف>> أجوبة أكثر ممّا يطرح أسئلة؟ ماذا لو أصر لحود على <<الثلث المعطل>> في أي حكومة؟ ماذا لو رفض توقيع المراسيم؟ إلخ...

ما الحل؟

نفترض أن باب التسوية مقفل بين رئيس الجمهورية والأكثرية الجديدة. ونفترض أن المواجهة مرجحة وستبدأ بأسماء الوزراء ولا تنتهي عند أي قرار. غير أنه من الصعب بمكان تجنّب المنازلة لأن ذلك يلغي عن <<أول انتخابات ديموقراطية منذ عقود>> معناها.

يمكن للرئيس لحود أن يعاند إذا أراد وأن يتمسّك بمنصبه. غير أنه سيتحمّل مسؤولية كبيرة إذا حجب الوضوح عن اللبنانيين الذين قرروا، بملء إرادتهم، تفويض أمورهم إلى أكثرية جديدة. إن المجلس الذي مدّد للحود تغيّر. ولقد تغيّر، بالضبط، لأنه مدّد للحود. وأي احترام لروحية الدستور يفرض على رئيس الجمهورية، إذا قرّر البقاء، أن يمارس الصلاحيات الممنوحة له بأضيق تفسير ممكن لها. كل ما عدا ذلك يلقي عبء الأزمة عليه.

القول بأن سعد الحريري محكوم بالتقدم نحو السلطة لا يعني، بالضرورة، أن عليه شخصياً ترؤس الحكومة. ولكنه يعني أن عليه أن يتحمّل المسؤولية السياسية عن أي حكومة جديدة. فلبنان يحتاج إلى الوضوح، ولا وضوح إلا إذا وصلت العملية الانتخابية إلى نهايتها، أي إلى أكثرية حاكمة وأقلية معارضة.

عون محكوم بالمعارضة. يتحدث عن برنامج وبرلمان ظل. إذا سار في هذه الوجهة فإنه يملك فرصة لرفع الأداء المعارض وهذا ما نحتاج اليه في لبنان قدر حاجتنا إلى رفع الأداء الحاكم. ولكنّ شرط النجاح في هذه المهمة الإدراك أن برنامج خوض الانتخابات، أي البرنامج الحزبي، لا يمكنه أن يكون برنامج المعارضة كلها، أي البرنامج الجبهوي. ثم إن منطق عون كفيل بالارتداد عليه. فلقد أعلن أنه ضد التعايش ضمن الحكومة فهل يقوده ذلك إلى رفض أي طلب للحود ب<<حصة>> في الحكومة أو أي سلوك للحود يفرض <<تعايشاً صعباً>> على رئيس الحكومة. يفترض بعون أن يطالب لحود بقدر من الانكفاء حتى تتمكن حكومة الأكثرية من الحكم، وحتى تتمكّن الأقلية المعارضة من الاعتراض، خوفاً من أن يؤدي العكس إلى الشلل وإلى نشوء ثنائية تتسرّب من ثناياها كل الاضطرابات الأمنية وغيرها.

مصادر
السفير (لبنان)