تقول مصادر فرنسية رسمية واسعة الإطلاع إنه رغم الرسائل المتكررة التي أرسلتها السلطات السورية الى باريس ومفادها أن دمشق «ترغب في عودة الحوار مع فرنسا بغرض فتح صفحة جديدة» في سجل علاقاتهما المتقلبة،

فإن باريس ما زالت غير متحمسة للتجاوب مع الرغبة السورية وتريد الانتظار مزيدا من الوقت قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة. و تنطلق دمشق للتطبيع مع باريس من واقع أن التوتر معها يعود الىالملف اللبناني وإلى الحضور العسكري والمخابراتي السوري السابق فيه. وبما أن دمشق أعلنت عن سحب كل قواتها من لبنان وأنها تتعاون مع الأمم المتحدة ومع المبعوث الخاص للأمين العام، تري رود لارسن، فقد انتفت، من وجهة نظرها، الأسباب التي تحول دون البدء بحوار مع فرنسا وإعادة العلاقات بين العاصمتين إلى سابق عهدها. إلا أن باريس ترى، بحسب مصادرها التي تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، أنه «من المبكر اليوم تحرير شيك على بياض للسلطة السورية واعتبار أن الموضوع اللبناني انتهى في بعده السوري لأن دمشق ما زالت في مرحلة الاختبار الدولي في لبنان».

و تجيء الاغتيالات المتكررة في لبنان لتزيد من حذر باريس ورغبتها في الانتظار، وتعتبر المصادر الفرنسية أن وجود الأجهزة السورية في لبنان «ما زال قائما» كما أنها تطرح علامات استفهام حول مخططي ومنفذي عمليات الاغتيال من دون أن تتبنى علنا الاتهامات الأميركية لدمشق، بل تقف عند التركيز على تنفيذ القرارين الدوليين 1559 و1595 ـ والأول يطالب بانسحاب كامل وناجز للقوى والأجهزة السورية والثاني بتشكيل لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري. وتؤكد هذه المصادر أن ثمة موضوعين بالغي الأهمية يجب توضيح الأمور بشأنهما، لا بل حسمهما، قبل مد اليد الفرنسية مجددا الى سورية. ويتناول الموضوع الأول نمط التعاطي السوري مع لبنان اليوم وغدا، إذ تحتاج باريس، كما تقول مصادرها، للتأكد من أن دمشق «تلعب لعبة التغيير السياسي ولا تسعى الى عرقلتها»، كما أنها «تمتنع عن إجهاض التحولات السياسية الجارية في لبنان وزعزعة استقراره الداخلي عن طريق النفوذ الذي لا تزال تمارسه بوسائل مختلفة منها بالواسطة ـ عبر الجماعات الصديقة لها ـ ومنها المباشرة من خلال حضورها المخابراتي الذي نشك في أنه زال نهائيا» من لبنان. وتبدي المصادر الفرنسية تخوفا من استمرار مسلسل الاغتيالات وتؤكد أنها أسدت «بعض النصائح» لسياسيين لبنانيين بتوخي الحذر.

أما الملف الثاني، فيتناول التحقيق الدولي في اغتيال الحريري. وتقول المصادر الفرنسية إنه من «الصعب للغاية استئناف علاقات طبيعية مع دمشق ما لم تبيض اللجنة الدولية صفحة مسؤولي الأجهزة الأمنية، وغير الأمنية، السورية من هذه الجريمة». وبحسب هذه المصادر فإنه «يجب ألا نتوقع أي تطور ملحوظ في الملف الفرنسي ـ السوري قبل شهر سبتمبر(ايلول) المقبل»، أي مع انتهاء مهلة الأشهر الثلاثة الأولى التي أعطيت للجنة الدولية لجلاء الحقيقة حول مقتل الحريري. وترغب باريس التي وقفت بداية الى جانب الرئيس بشار الأسد وحاولت مساعدته، أن تتحول دمشق الى «عنصر استقرار» في لبنان وتؤكد أن «همها محصور بتوفير الاستقلال السياسي» للسلطات اللبنانية الجديدة، كما تحرص على التأكيد على أن سياستها إزاء سورية «تتوقف عند الحدود اللبنانية ولا تصل الى دمشق»، أي أنها محكومة فقط بالملف اللبناني بعكس السياسة الأميركية التي تجعل من لبنان جزءا من ملف إقليمي أوسع يشمل فلسطين والعراق والوضع الداخلي السوري والإصلاحات المطلوبة من الرئيس بشار الأسد. وحول مستقبل العلاقات اللبنانية ـ الفرنسية، تقول المصادر الفرنسية إنها «لا ترى غضاضة في قيام علاقات مميزة بين بيروت ودمشق ولكن في إطار احترام السيادة والاستقلال السياسي اللبناني بشكل كامل». وتعول باريس على استمرار الضغوط الدولية على دمشق لحماية الوضع اللبناني، مع تأكيدها أن التأثير الخارجي في لبنان «ربما وصل الى حدوده بعد أن نجح في إخراج السوريين وضمان انتخابات مقبولة، وبالتالي فإن المرحلة الجديدة عنوانها توافق اللبنانيين تغليب الحس الوطني والمصلحة العليا لبلدهم». ولغاية اليوم تواصل باريس تشجيع العواصم الأوروبية على الاكتفاء بالحد الأدنى من الاتصالات الدبلوماسية مع دمشق في ما يشبه فرض شكل من أشكال العزلة الدبلوماسية غير المعلنة عليها.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)