يستلّ العماد ميشال عون “البرنامج” كلما ووجه بسؤال عن تحالف سياسي أو عن احتمال المشاركة في السلطة. لقد أدخل هذه “الفضيلة” إلى الحملة الانتخابية الأخيرة ولو أن ذلك لم يمنعها من أن تحصل وفق القواعد اللبنانية التقليدية، لا بل على قاعدة تضخيم المساوئ المعروفة في هذه القواعد. وأبرز هذه المساوئ أن الأوعية الطائفية جاهزة لاستقبال كل توتر، ولإعادة تأويل أي خطاب سياسي، مهما بالغ في نبرته الوطنية، عبر العدة المفهومية التي توفرها الطبيعة الطائفية الغالبة على الحياة العامة.
لم يحتكر التيار الوطني الحر قدرة الادعاء على حيازة برنامج. فحزب “الكتلة الوطنية” طرح واحداً، وكذلك حركة التجدد الديموقراطي، أو اليسار الديموقراطي، أو الحزب الشيوعي. ولا مجال للإنكار في أن تيار المستقبلاستحضر الشهيد رفيق الحريري ونهجه بصفته برنامج السلطة المقبلة. ولكن يبقى أن التيار الوطني نجح في تمييز نفسه بأن مرشحيه هم مرشحو البرنامج.
تقضي الأمانة القول إن الموجة التي حملت التيار إلى حيث هو الآن لم تتشكل من البرنامج وحده. تداخلت عناصر كثيرة فيها. ويمكن الرهان أن العدد الأكبر من الناخبين لم يقرأ البرنامج أصلاً وإنما اقترع لصاحبه لثقته فيه وبالناشطين معه، وكرد فعل على سلوكيات من انقلب على 14 آذار، أو نظر إليه كذلك. ولعل في ذلك ما يفسر كيفية تقديم التيار للإنجاز الذي حققه وتباين ذلك عن شبه الإجماع اللبناني في تفسير ما جرى وفي قراءته. يستطيع العونيون أن يكرروا إلى الأبد المعنى الذي يعطونه لعملهم ولكن يكفي المرء أن ينظر سريعاً إلى الواقع اللبناني من أجل اكتشاف الهوة الفاصلة بين هذا المعنى كما يقدمه أصحابه وبين المضمون المعطى له من قبل آخرين. ويتوجب، حتى إشعار آخر، أخذ خطاب العونيين عن العونية بصفته إعلاناً لحسن النوايا. ولعل من واجبهم إقناع أقرب الحلفاء الانتخابيين إليهم، سواء فازوا أو خسروا، بقراءة البرنامج أولاً، وبإنتاج الخطاب السياسي المتلائم معه ثانياً.
يبقى أننا أمام برنامج. إنه برنامج تيار أثبت حضوراً شعبياً فاعلاً في الانتخابات. وربما سيكون البرنامج العمود الفقري لأطروحات الحزب الذي يؤكد العماد أنه سيدفع إلى إنشائه. لذا النقاش واجب.
هذه ملاحظات أولية على وثيقة لا تخلو من ثراء ومن... اضطراب.
أولاً لا شك في أن واضعي البرنامج يصدرون عن نظرة حداثية إلى لبنان: قانون الانتخاب، البيئة، القانون الاختياري للأحوال الشخصية، المرأة، التربية، الإدارة، إلخ... الدعوة التغييرية المختزنة في البنود ثورية في بعض وجوهها. ولعل الميزة، هنا، أن لا نعرف تياراً شعبياً عريضاً يملك مثل هذه الأطروحات ويتعهد غرسها في البيئة التي يمارس نفوذاً فيها. إن التلاقح مع ما هو إيجابي في العالم المتقدم يقطع مع طريقة سابقة في التعاطي مع الغرب يكتفي من حداثته بقشرتها الخارجية.
ثانياً تبدو الوثيقة محكومة بطرح اقتصادي ليبرالي يتجاوز في آن معاً تصورات ميشال شيحا وممارسات الرئيس الشهيد رفيق الحريري. إن البرنامج، بهذا المعنى، أقرب إلى اليمين من التصورات الإصلاحية التي تميز النائب نسيب لحود، مثلاً، باقتراحها.
ثالثاً يكسر البرنامج الصورة النمطية للجنرال. فهذه الصورة توحي أن الرجل ميال إلى توسيع دور الدولة في كل المجالات. أما الوثيقة فتفاجئ، ليس بالمعنى الإيجابي، لجهة الإصرار على التراجع المبرمج للدولة لمصلحة القطاع الخاص، وعلى القدرة التنافسية (هذه هي العبارة التي دفعت الفرنسيين إلى رفض الدستور الأوروبي)، وعلى تقليص مهام القطاع العام. بكلام آخر نحن أمام اندراج مبالغ فيه في مزاج العصر لا أمام معانقة للفكر النقدي الذي يواكب <<العولمة البديلة>>. والمهم، هنا، أن التيار يقع في الخطأ الذي وقع فيه سواه عند التعاطي مع قضايا <<الخصخصة>>. فالمشكلة، هنا، ليست في الشفافية والمحاسبة. المشكلة أنه، في الواقع اللبناني الملموس، ثمة اضطرار إلى المفاضلة بين الدور المتوسع للدولة ومساوئه وبين الانسحاب المنظم للدولة وأثره على حرمانها من السيطرة على الحيز العام بما يسمح بزيادة طغيان الطوائف أو الرأسمال الملتحق بالطوائف.
رابعاً ثمة اقتراح بإدخال تعديلات هيكلية، ليس على بنية المؤسسة العسكرية وإنما على عقيدتها التي جرى اعتمادها في السنوات الأخيرة. إن «مواجهة الأخطار المستجدة المتمثلة بالإرهاب الدولي والأصولية الدينية»، إذ يعيد المؤسسة إلى دور داخلي أكبر، فإنه يتماشى مع تصورات محددة لطبيعة الأخطار ليست هي، بالضبط، تلك التي رسا تفاهم اللبنانيين عليها، أو تظاهروا بذلك. إن العقيدة الدفاعية الراهنة التي تصنف إسرائيل عدواً أول تضع لبنان في موقع مختلف إلى حد بعيد عن الموقع الذي ترغب فيه الوثيقة الداعية إلى مكان للبلد، ودور، في الحملة الدولية على الإرهاب الأصولي. إن وقع هذه الكلمات في لبنان شديد الدلالة علماً أن مكافحة الإرهاب واجبة وأن اقتصار ذلك على المعالجة الأمنية قاصر.
خامساً كلما تطرق البرنامج إلى دور لبنان في المنطقة أفاض في الحديث عن المهمة الحداثية، وهذا مقبول، ولكنه ركز، أيضاً، على لبنان وسيط السلام، والحوار. هنا، أيضاً ثمة تجاهل لمعنى ارتباط لبنان بأزمات المنطقة وهو ارتباط يجب أن يكون محكوماً، عدا الانتماء القومي، بقيمة العدالة التي قد تكون أرقى من القيم الجاري التبشير بها كمدخل إلى تسويات غير متوازنة.
سادساً لا يعلن البرنامج أي تبن للقرار 1559. غير أن الملحق الخاص بمسألة حزب الله يحور ويدور حول قضية سلاح المقاومة من أجل أن ينزع المشروعية عنه. الموقف المبدئي، إذاً، هو رفض السلاح. الموقف السياسي هو إخضاعه لتوافق لبناني. والغائب الأكبر هو الجواب عن السؤال التالي: ماذا لو لم يحصل التوافق؟
سابعاً يعاني البرنامج من نسبة التفاؤل العالية عند الحديث عن «الشرق الأوسط الذي يُعاد بناؤه» أي أن القصد هو الإيحاء بأن المقترح للبنان مقترح في ظل إقليم تشهد مشاكله، من فلسطين إلى العراق، حلولاً. لو كان الأمر مجرد خطأ في التقدير لكان هيناً. ولكن الواضح أن المعضلة هي في الروحية الكامنة وراء هذا الخطأ في التقدير والتي تبدو ميالة إلى الاعتقاد بأن القوى الغربية النافذة، الولايات المتحدة تحديداً، عازمة فعلاً على تقديم الحلول العادلة التي تؤمّن الاستقرار للمنطقة ومنها لبنان.
هذه الملاحظات الأولية لا تستوفي الوثيقة حقها من النقاش. إلا أنها ضرورية، كمنطلق، نتيجة المكانة التي احتلها البرنامج، وسيحتلها، في حياتنا العامة.
يمثّل البرنامج وعي النخب التي تشكل التيار الوطني وهي، على الأعم، نخب الفئات الوسطى الليبرالية اجتماعياً واقتصادياً والمشدودة نحو مشروع يعتبر أن مصالحه مؤمّنة في امتداد تأمين مصالح هذه البورجوازية اللبنانية. هذا أولاً. وثانياً، ومن غير أي رغبة في استفزاز العونيين (أن يستفزهم ما يلي علامة إيجابية لصالحهم)، فإن المضامين المعطاة للجمهورية هي مضامين مستقاة من فكرة ما عن لبنان مستمدة من التراث الثقافي الذي شكّل وجدان المسيحيين اللبنانيين. لا يعني ذلك أن البرنامج طائفي. ولكنه يعني أنه ينتمي، روحياً، إلى بيئة محددة.
وفي الإمكان السجال ضد ما تقدم بأن المسلمين يزدادون لبننة. نعم إنهم يفعلون ذلك متجاوزين التسليم بنهائية الكيان نحو وعي ومزاج ريفيين وجبليين. إلا أنه يمكن القول إننا قد نكون أمام عارض أصابهم وأصاب سنّة المدن منهم تحديداً. ويشكل هذا العارض سنداً يخفف من الدمغة، ولو غير الإرادية ولا المرغوبة، التي تطبع برنامج التيار.
سياسياً، يتوجب القول إن البرنامج لا يصلح أساساً لقيام جبهة معارضة واسعة. لا نعرف، في المشهد اللبناني، من يسعه الموافقة على هذه الأطروحات والانضمام إليها خارج البيئة التي احتضنت التيار وأمّنت له فوزاً. ولا نعرف، كذلك، كيف ينظر التيار إلى القوى السياسية اللبنانية بتنويعاتها وكيف يرى إلى إمكانية الحوار معها. ما نعلمه هو أن أي إطار جديد يستلزم تسويات برنامجية. إن هذا هو ألف باء العمل الجبهوي.

مصادر
السفير (لبنان)