يا لهؤلاء الفرنسيين, وأي مبلغ يمكن أن يصل بهم الغباء؟! فالاتحاد الأوروبي يسعى من جانبه إلى تعزيز وتعضيد وحدته, بينما رفضت فرنسا مسودة دستور الاتحاد, تشبثاً منها بأسبوع عمل مواطنيها المكون من 35 ساعة, ولحماية غيره من مكاسب وفوائد الرعاية الاجتماعية الأخرى! يا لها من نزعة فرنسية مغالية في رفضها للعولمة! إيه شيراك... أي عالم هذا الذي تعيش فيه؟ أما آن لك أن تنخرط في هذا البرنامج الذي يسمونه بـ“الرأسمالية الأنجلو- أميركية”؟ هيا يا صديقي.

يا إلهي, إنه لأمر مبهج أن “نطاعن” الفرنسيين هكذا. ولكن صه.. ما ذاك الصوت الذي أسمع الآن؟ أليس تهديداً من قبل الكونجرس, بل من قبل الكثيرين من أعضائه الديمقراطيين, برفض معاهدة "كافتا" التي تشير اختصاراً إلى «اتفاقية التجارة الحرة مع أميركا الوسطى»؟ أليسوا هؤلاء هم أعضاء الكونجرس الأميركي, وهم يبدون خوفهم من المصادقة على تلك الاتفاقية التي وقعت من قبل نحو عام تقريباً, مع كل من السلفادور وكوستاريكا وجواتيمالا وهندوراس ونيكاراجوا وجمهورية الدومنيكان؟

يا إلهي... إنني لأخشى أن تكون تلك هي الحقيقة! أليس في الكثير من هذا ما يشبه رفض الفرنسيين للمزيد من التكامل والوحدة الأوروبية, انطلاقاً من حماية الذات والخوف من خوض معركة تنافسية, في عالم أصبح اليوم بلا حدود أو جدران؟ نعم ... يبدو أننا بتنا جميعاً فرنسيين الآن!

ولكن هل أصبحنا فرنسيين تماماً؟ ليس بعد, غير أن هذا هو ما تتجه صوبه أميركا, فيما لو تساهلت أمام الضغوط المزدوجة التي يمارسها تجار السكر الذين ينوون وقف المزيد من استيراد السكر من دول أميركا الوسطى, وشركات واستثمارات الحديد الصلب, التي تبدي عداءً ورفضاً للدخول في أي اتفاقات تجارة حرة في هذا المجال. ثم هناك الديمقراطيون الذين ينوون إيقاع الهزيمة باتفاقية “كافتا” نكاية بالرئيس بوش ولتجريده من أي سلاح اقتصادي. إني لأفهم رغبة الديمقراطيين في إلحاق الهزيمة بالرئيس بوش, ولكن فليكن خيارهم مجالاً آخر من المجالات الكثيرة التي يمكنهم فيها أن يصرعوا الرئيس بوش ويهزموه. ولذلك فأنا لأربأ بالديمقراطيين أن يجعلوا من نشر التجارة الحرة وإبرام اتفاقياتها مع هذا الجزء من العالم, معتركاً لهزيمة بوش, فيما لا يقبل العراك. فللرئيس بوش أخطاء في مجالات كثيرة يمكن إمساكه بها وسحقه فيها, عدا موقفه من توسيع التجارة الحرة في أميركا الوسطى, لكونه مصيباً فيه دون شك.

غني عن القول إن غريزة الدفاع الاقتصادي الفرنسية, ليست بالنموذج الجيد الذي نسعى لتبنيه أو محاكاته هنا, مع ما نرى من مزيد من التسطيح الذي يشهده العالم, والمزيد من الحراك والانتقال للأيدي العاملة من بولندا والصين والهند إلى بقية أنحاء العالم. وها قد حان الوقت لكي نجيد اللعب على قيم الانفتاح والمرونة والرغبة في احتضان كل ما يغري من دمار خلاق, وأن نتولى زمام قيادة التجارة الحرة العالمية.

وبهذه المناسبة فإنه يجدر ذكر تلك الدراسة التي نشرها "معهد ماكينزي العالمي" للتو, حول المعاناة التي واجهتها كل من فرنسا وألمانيا –قياساً إلى الولايات المتحدة الأميركية- جراء محاولتهما صد العمالة المهاجرة وتسرب الوظائف من بين أيدي العمال الوطنيين. وفي ذلك فقد لاحظت الدراسة المذكورة, أن "ديناميات" تنافسية جديدة قد بدأت في التخلق والظهور. وكانت أولى تحركات الاستثمار الخارجي قد حسنت من مستويات التكلفة, وعززت أسهم السوق الداخلية الوطنية, وأدت إلى خلق المزيد من الوظائف في مجرى تلك العملية. أما الشركات التي حاولت مقاومة هذا الاتجاه, فقد وجدت نفسها في أوضاع تكلفة متفاقمة باطراد, إلى جانب تراجع أسهمها في السوق, لتصل في النهاية إلى حالة من الكساح والعجز الوظيفي التام. وللسبب عينه, فإن الخطأ كل الخطأ, أن يتم تبني السياسات الدفاعية الرامية إلى منع الشركات من نشاط الاستثمار الخارجي. ذلك أن هذا النوع من الاستثمار, يعد وسيلة ناجعة وفاعلة للغاية في خفض الشركات لتكلفة إنتاجها, فضلاً عن تحسين نوعية المنتجات التي تقدمها للمستهلكين, بما يسمح لها بالاستثمار في بيئة الجيل القادم من التكنولوجيا, وخلق وظائف المستقبل.

وبالنسبة لنا هنا في أميركا, فإن اتفاقية "كافتا" تعد ذات أهمية كبيرة فيما لو أرادت الولايات المتحدة ودول أميركا الوسطى, خوض المنافسة الضارية في صناعة المنسوجات مع دولة مثل الصين. فالمعلوم أن الشركات الأميركية مختصة في المجالات الأكثر تقدماً مثل أصباغ المنسوجات والتصميم وصنع الأقمشة والخيوط وما شابه ذلك. أما دول أميركا الوسطى, فتتخصص هي الأخرى في مجال الخياطة. وبسبب قرب المسافة الفاصلة بيننا وبين دول اتفاقية "كافتا" فإن ذلك يسهل كثيراً استجابة تجار التجزئة الأميركيين, لكافة المستجدات والمتغيرات التي تطرأ على السوق, الأمر الذي تعجز عنه المصانع والشركات الصينية البعيدة. ولعل ذلك هو السبب عينه الذي دفع روبرت زويليك –نائب وزير الخارجية الأميركي- إلى القول إن القميص الذي يكتب على ديباجته "صنع في هندوراس" ربما يحمل نسبة أميركية قدرها 60 في المئة من مكوناته, في حين لا تتوفر ولا نسبة صفر واحد أميركية على الأرجح في مكونات القميص الذي تكتب على ديباجته عبارة "صنع في الصين".

وأخيراً فإن هناك اعتبارات المخاوف الجغرافية السياسية. فخلال عقد الثمانينيات, كنا نخشى من أن تنحو بلدان أميركا الوسطى, منحى شيوعياً. أما اليوم فها نحن نخشى لهذه الدول أن تتحول إلى دول رأسمالية! لنذكر أننا أنفقنا مليارات الدولارات في محاربة الشيوعية, وها هي الفرصة قد لاحت أمامنا لتقديم العون والمساعدة في تعزيز هذه الديمقراطيات الهشة, بواسطة إبرام اتفاقيات التجارة الحرة معها.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)