قد تکون هناک الکثير من المآخذ و الانتقادات فيما يخص الرئيس السوري الراحل“حافظ الاسد”، لکننا في نفس الوقت لانجد مناصا من الاقرار بأنه کان مناورا سياسيا جيدا لايستهان به. وخلال مختلف الازمات التي مرت بالمنطقة، ولاسيما بعد الزيارة التأريخية للرئيس المصري“أنور السادات” الى إسرائيل و مانجم عنها من توقيع إتفاقيات“کامب ديفيد” للسلام بين مصر و إسرائيل، حاولت سوريا إستغلال الفراغ الکبير الذي خلفته مصر و تبوأ مرکزها المتميز على الصعيد العربي. وفي سبيل ذلک الامر، سعى الاسد الراحل بإتجاهين کانا يتجسدان في:
1 لملمة الدول العربية التي کانت تطلق على نفسها“تقدمية و ثورية”، في ماأصطلح عليه حينها“جبهة الصمود و التصدي”، والتي کانت موجهة ضد السادات و أردن الحسين الراحل.
2 تعزيز علاقات دمشق مع الدول العربية المحافظة و على رأسها السعودية، حيث شهدت العلاقات بين البلدين تقدما و إضطرادا متزايدين و خصوصا بعد زيارة السادات للقدس. وهذه العلاقات صارت من الارکان الاساسية في السياسة السورية على الصعيد العربي.
ولتعزيز و ضمان سير السياسة السورية المرسومة لبلوغ هدف تبوأ الدور المصري عربيا، سعى حافظ الاسد جاهدا لأبقاء الابواب مشرعة أمام العلاقات السورية مع الغرب و حتى الولايات المتحدة الامريکية ذاتها. وعلى الرغم من التبعات الثقيلة للعلاقات العسکرية السياسة السورية مع الاتحاد السوفيتي السابق، لکن الاسد الاب قد إستطاع بحنکة و دراية أن يرسم خيطا رفيعا يفصل بين المصلحة السورية الخاصة بعيدا عن قيود العلاقات مع موسکو، وبين المصلحة السورية الاستراتيجية في تحالفها مع السوفيت کعامل تعادل موجه ضد التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي الامريکي. وبلغ حافظ الاسد ذروة حنکته السياسية حين قام بتوضيف الاوراق السورية ضمن الاوراق الامريکية خلال الاجتياح الصدامي الاحمق للکويت، وبموجها شارکت القوات السورية جنبا الى جنب مع القوات الامريکية ضد القوات العراقية. تلک الخطوة السياسية العسکرية السورية التي جنت دمشق من خلالها مکاسب إقتصادية هي في أمس الحاجة إليها. ولامراء أن القدر لو کان أمهل الاسد العجوز، لکان سيحقق مکاسب سياسية و إقتصادية اخرى لسوريا، بيد أن الرياح دوما لاتجري بما تشتهي السفن، فقضى حافظ الاسد نحبه ودفن بقرداحة. وما أن وري الثرى حتى أسرع الحرس السوري القديم و على رأسه لتنصيب"الشبل" بشار مکان الاسد الراحل، وهي خطوة سياسية تحفل بالکثير من البلادة و ضيق الافق للقيادة السورية والتي بينت بوضوح أن في سوريا أيضا"قلعة الدول العربية التقدمية الثورية" يؤخذ بالعرف التقليدي"مات الملک، عاش الملک" بفارق إضافة کلمة"الاسد" محل"الملک!" وکعادة الاعلام الموجه في الدول ذات الحکم الشمولي، أقامت أجهزة الاعلام السورية الدنيا و لم تقعدها بخصوص إصلاحات مرتقبة و خطى جبارة للسوبرمان الشاب بحيث تحيل سوريا کلها الى ذلک الوادي الذي يعيش فيه الذئب الى جانب الشاة!! ومرت الايام تترى، ولم يکن هناک من جديد تحت الشمس، سوى الانباء التي تتحدث بإستمرار عن تدخل سوري في الشأن العراقي وتورط ضباط مخابرات سوريين في الامر، والنبأ الصاعق الذي تحدث عن التورط السوري في إغتيال رئيس وزراء لبنان الاسبق، رفيق الحريري، وإغتيال الشيخ معشوق الخزنوي من قبل المخابرات السورية. ناهيک عن التنسيق السوري مع طهران من جهة، ومع فلول و بقايا البعث العراقي المنحل. کل هذه المسائل هي أفضل ماجادت به سلة الاسد الابن. وإذا راهن الکثيرون على الشبل“بشار” وظنوه“منتظر” سوريا، فقد أثبتت الايام، أن الرئيس السوري الشاب لايمتلک حصافة و بعد أفق فکر والده، وإنما على الضد من ذلک تماما.خصوصا في تعامله مع الملفات المختلفة المطروحة أمامه، ولاسيما الملفين اللبناني و العراقي، إذ إستطاع حافظ الاسد أن يستفيد من الظروف الدولية و تغيراتها لصالح تعزيز الهيمنة السورية في لبنان، في حين لم يستطع بشار الاسد من المحافظة على تلک الهيمنة"کحد أدنى"، بل وقد وجد نفسه مضطرا الى الهروب بجلده من لبنان. أما في العراق، فقد کان الاسد الاب لاعبا حاذقا في کيفية الاختراق و المناورة مع مختلف أطراف الساحة العراقية، حتى إنه نجح في طرح دمشق“في عهده”، کمرجع للمعارضة العراقية. بيد أن الامر في عهد الاسد الطبيب، قد إتخذ منحى مغايرا تماما، إذ صارت دمشق ملاذا لبقايا و فلول النظام البعثي المباد نفسه. وحين توجه الدعوة الرسمية للرئيس العراقي“جلال الطالباني” لزيارة دمشق، فقد تکون خطوة غير مکتملة إن لم تقترن بخطوات عملية اخرى تقتل الشک العراقي الرسمي و الشعبي من الدور التخريبي لدمشق في العراق، باليقين الذي سوف يتجسد فقط في إنهاء ظاهرة التسلل و تمويل جذور الارهاب في العراق. وفي غمرة الضياع السوري الرسمي و لاسيما بعد مؤتمر حزب البعث الاخير الذي إنطبقت عليه کل دلائل و عناوين الفشل الذريع، تبدو الحيرة السورية واضحة جدا من حيث کيفية تکملة مشوار الاسد الاب في ظل الثعلب الامريکي المتربص بالشبل المندفع کي يدفعه الى إحدى الهاويات. وهنا لاأجد ضيرا من سرد إحدى حکايات جدتي التي مازالت عالقة في ذهني وهي حکاية“الاسد و الثعلب”، و لاأدري لماذا أجد نوعا من الترابط بين هذه الحکاية و بين واقع الامر بين دمشق و واشنطن. يروى أنه کان هناک أسد يافع قد ملأ الغابة فوضى و بلبلة من جراء طيشه و نزقه. ولم تجرؤ أي من حيوانات الغابة على الوقوف بوجه هذا الاسد المتهور سوى الثعلب الذي طرأت له فکرة حاذقة، حين ذهب يوما الى الاسد وهو يجهش في بکاء غير عادي. تعجب الاسد وسأل الثعلب عن سبب بکاءه، فأجابه الثعلب وهو يتظاهر بحزن غير عادي: أبکي والدک! تعجب الاسد وسأل الثعلب بلهفة: ولماذا تبکي والدي؟ فأجابه الثعلب و هو يحاول أن يغالب بکاءه: لقد کان رحمه الله قويا، شجاعا، هصورا، جريئا، مقداما، ولم يرعبه شئ إطلاقا! فقال الاسد المغرور: وبماذا کان يتميز عني؟ فأردف الثعلب في عجلة من أمره: لقد کان يقفز من قمة جبل الوادي العالي الى قمة الجبل الاخر المواجه له دونما خوف أو وجل، لقد کان جريئا الى أبعد حد. وأخذت الغيرة و الحمية بالاسد الطائش فطلب ودونما تفکير بالامر أن يأتي معه الى الوادي ليشهد قفزة"خير خلف لخير سلف"، وما إن قفز الاسد حتى هوى الى القاع الصخرية للوادي و تکسرت ضلوعه وبقي به رمق يسير من الحياة، وفي هذه الحالة هرع الثعلب إليه مسرعا و بدأ بإلتهامه وهو لايزال حي، فقال الاسد في تعجب يخنقه الالم: ماذا تفعل؟ فأجاب الثعلب في خبث وهو لا يزال يبکي: أفعل ما کنت تفعله بکل غريم ينتهي أمره معک!