من الطرائف التي يخترعها السوريون في الأزمات واحدة جديدة تقول إن أزمة دارفور سببها الوجود السوري في لبنان بحسب تلفزيون المستقبل!.. وأن مشكلة الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك تفاقمت بسبب عدم تعاون السلطات السورية بحسب تلفزيون المستقبل أيضاً.

أما ثقب الأوزون.. ! فقد شوهد أحد عناصر الاستخبارات السورية “المنتشرة” فوق الأراضي اللبنانية، وهو يدق إزميلاً في صحن السماء! وقد كان صوت المطرقة مسموعاً وواضحاً في المسافة الممتدة بين الضاحية الجنوبية وجديدة المتن!

وعلى المقلب الثاني من العالم، تضج الصحف بالروايات “المرعبة” عن الدور السوري في دعم الإرهاب وتهديد السلم العالمي والفتك بكل من تسول له نفسه اللعب معها!

إنها دولة عظمى لها كل هذا التأثير.. فقد كان العراق هادئاً ومسالماً وخاضعاً للاحتلال لولا الدعم السوري للمتسللين عبر حدودها.. وكان لبنان البلد الحر خالياًَ من الأمراض الطائفية والمذهبية والاقتتال لولا “الهرطقة” السورية.

إنها دولة عظمى، إذ لا يخلو يوم إلا ويندد بها الرئيس الأمريكي جورج بوش ووزيرة خارجيته المكلفة بتعليم البشر فنون الديمقراطية وفوائدها في مصر والسعودية وسورية وسائر المشرق ووزير دفاعه المسؤول عن الدورات التدريبية لتعليم فنون الحياة الحرة الكريمة في سجن أبو غريب ومخزن غوانتانامو للحم البشري. قليل من الماء البارد على الرؤوس الحامية!

ماذا لو أن سورية قبلت أن تتحول إلى كيس رمل لحماية المحتل الأمريكي في العراق، وفتحت أراضيها أمام جحافل القوات العسكرية الأمريكية قبل الاحتلال وخلاله ووجهت إعلامها لتبرير ما تقوم به أمريكا وبريطانيا وبقايا أشباه الدول في التحالف من قتل وتدمير واحتلال لدولة عضو في الأمم المتحدة، و.. و.. الخ.

من حسن حظ سورية.. من سوء حظ سورية.. أنها في موقع استراتيجي لا يمكن شطبه أو القفز فوقه، والذين يفهمون لغة الخرائط يعرفون ماذا يعني كل هذا الضغط الهائل عليها.. لو حاولنا النظر إلى خريطة العراق سنجد أن جارته الشمالية “تركيا” لا تستطيع لعب دور المساعد الشاطر لأمريكا لأسباب كردية.. وجارته الشرقية “إيران” لا يسمح لها بدور أكبر لأسباب شيعية، وعلى ذلك قس بقية دول الجوار. وحدها سورية تشكل البوابة الواسعة للعراق نحو المتوسط.. مدى جغرافي مفتوح وإمكانات لا يمكن شطبها.. سورية لها علاقات مميزة مع شيوخ العشائر في العراق “بعض هذه العشائر يقطن في البلدين”.. علاقات مميزة مع زعماء الشيعة وقادة أحزابها.. علاقات مميزة “وإن شابها بعض الفتور” مع زعماء الكرد .. بيئة ثقافية واحدة وتداخل بشري كبير.

إذن لماذا لا توظف هذه الإمكانات في خدمة أمريكا.. لماذا لا يقبل السوريون تنفيذ رغبات واشنطن؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي من شرفته يمكن فهم ما عصف بهذا الإقليم بدءاً من صخرة الروشة وليس نهاية بشط العرب.

هل كانت سورية ستتهم باغتيال رفيق الحريري لو أنها قبلت التعاون؟ واستطراداً، هل كانت ستتهم باغتيال الزميل الصحافي سمير قصير والقائد الشيوعي المميز جورج حاوي؟ وهل كانت ستدفع للخروج من لبنان بهذا الشكل؟

هل سورية دولة عظمى أم دولة مارقة؟ السوريون في حيرة!

لا شك أن سورية ليست دولة نموذجية وفيها من المشاكل ما يكفي، وأنها مثل كل دول العالم الثالث تعاني من البطالة والأمية والاقتصاد المتخلف والفساد ولكنها بلد آمن.. دمشق على سبيل المثال: ليالي صيفها حافلة وشوارعها لا تخلو من الساهرين حتى ساعات الفجر الأولى، ونسبة الجريمة فيها أقل منها في باريس، عاصمة النور! وأهلها برغم كل هذا الضجيج في وسائل الإعلام، لم يخزنوا ربطة خبز واحدة زيادة عن معدل الاستهلاك، وبوابات حدودها مفتوحة للزائرين والسياح والعائدين إلى بلادهم من المغترب، والراغبين في الاصطياف والهاربين من العنصرية، التي أصبحت تُرى بالعين المجردة في شوارع بعض العواصم والمدن التي تتباهى بالدفاع عن حقوق الإنسان واللاتمييز.

سورية التي تحتل العناوين في صحف العالم على أنها تهدد السلم العالمي وتدعم الإرهاب، أراضيها محتلة، وهي لا تطالب إلاّ بتطبيق قرارات الأمم المتحدة التي أصبحت تطبق بانتقائية مفضوحة.

سورية الدولة العظمى! المارقة بلد صغير بإمكاناته واقتصاده.. كبير بإرادة أهله الذين يميزون بين الحق والباطل، بين الاستهداف الرخيص والمسؤولية التاريخية، ولذلك تعمل ليل نهار لسحب ذرائع استهدافها وتكرر النداء تلو النداء للأسرة الدولية لتقوم بدورها وتوقف هذا الظلم الذي لحق بها وبشعبها. وعلى التوازي يستمر العمل في الداخل ـ من غير خوف من أن ينظر إلى التغيير على أنه إملاء خارجي ـ يستمر العمل على قاعدة أن التغيير حاجة داخلية ـ وهو كذلك فعلاً ـ وشكل المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث المحطة الأبرز في عملية التغيير هذه.. فقد شهدت البلاد ما بين السادس والتاسع من يونيو (حزيران) نقاشاً جريئاً وجدياً شخص جوانب الوضع الحالي لسورية لخصه الرئيس بشار الأسد بقوله «إن هذا المؤتمر شكل قفزة نوعية». واستناداً إلى جوهر المداولات التي طرحت في المؤتمر، فإن ما عناه الرئيس الأسد، يعكس رغبة وإرادة في رؤية الحزب وقد نفض عنه غبار الكسل داخل غرف السلطة وزواريبها، وعاد إلى دوره كمدرسة سياسية تضبط دقات قلبها على نبض الشارع وقد كانت طليعته.. وإلا فما معنى أن يقود المؤتمر بحواراته الصريحة الدفع والمطالبة لإعادة النظر في قانون الطوارئ وبإصدار قانون جديد ينظم الحياة الحزبية، وقانون آخر يضمن حرية الصحافة، وبوضع آليات صارمة لمحاربة الفساد وبإيجاد المناخ الملائم لحوار وطني يشارك فيه الجميع، عدا أولئك الذين لا يعرفون معنى كلمة «مشاركة» ويقيمون الحد على من يخالفهم الرأي باعتبارهم أوصياء على تنفيذ تعاليم الدين على طريقتهم؟ وما معنى أن يطالب المؤتمر بقانون عصري للانتخابات في مجلس الشعب والإدارة المحلية؟ وما معنى أن يطالب المؤتمرون بحل المسائل الوطنية المعلقة كالتي تعاني منها الجزيرة السورية.

ولكي لا تكون هذه التوجهات مجرد عناوين، رُفعت مرة وَوُضعت على الرفوف، وجه الرئيس بشار القيادة الجديدة بوضع جدول زمني واضح لتنفيذ كل توصية. وأعتقد أن هذه القيادة ستواجه اللجنة المركزية أو المؤتمر المحتمل انعقاده عندما تقتضي الضرورة، للإجابة عن السؤال الأساسي: ماذا أنجزتم من هذه التوصيات؟ وسيكون تنفيذ هذه التوجهات امتحانا مفتوحا لهذه القيادة الجديدة، فتحاسب على أساسه وتكتسب شرعية وجودها من خلال ما تنجزه من غير تردد أو كسل.

سورية.. دولة عظمى.. دولة مارقة.. لكن ليس لها مثيل. صدرها واسع وقلبها كبير، وهي تنتظر الأيام القادمة عند المنعطف.. وهي بالتأكيد كما يقول نيرودا .. أجمل.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)