قبل الحرب الأهلية المدمرة التي عصفت بلبنان على امتداد عقد ونصف العقد، كان هناك نوع من البراءة في العمل السياسي.

كان اليساري يسارياً واليميني يمينياً، لكن مع إمكانية أن يظل الاثنان صديقين، يدعو أحدهما الآخر إلى السينما، أو المقهى الرصيفي، وتدخل مجادلاتهما الآيديولوجية العقيمة غالباً متاهات، من دون أن يعكر صفو مزاجيهما معكّر ...أو تحسمها طلقات مسدس بليغة.

مقاهي شارع الحمراء وحدها كانت تختصر كل التسامح العقائدي، ففي «الهورس شو» نقاشات نضالية، وعند «الأكسبرس» بوهيميون معترضون، وعلى الجانب الآخر من الحمراء في مقهى «ستراند» خليط عجيب جميل من رجال الأعمال والشباب و«مقطّعي» الوقت، إما بانتظار فيلم الأسبوع أو ترتيب إجازة «الويك إند».

كان الزمان... زمان خير، رغم أزمة إنترا وسجالات الطقم السياسي المعهود... المبررة حتماً بالصالح العام والقضايا المصيرية.

كان الزمان زمان خير، وكانت الوجوه رغم نوبات الاكفهرار مستبشرة متفائلة بغد جديد، بمقدور السياسة والاقلام الحرة صنعه لجماهير لبنان والعرب.

كانت ثمة سياسة حقيقية تدخل في عمق الوجدان المحلي، وتخاطب الشعب سواء على مستوى العالم كله برأسمالييه وماركسييه... أو في مصاف العشيرة والعائلة. ومثلما كانت للقوى التقليدية شوارعها واحياؤها ومعاقلها القروية، كانت هناك أيضاً شوارع وأحياء وقرى «مخلصة» للأحزاب الآيديولوجية النافرة من طوق الولاء التقليدي، المتمردة على أسر الزعامات الاقطاعية الراسخة إلى حين.

في يوم من الأيام زارنا صديق لعائلتي من منطقة عكار في شمال لبنان، فمر ببالي أن أسأله عن قرية زميل كنت قد تعرفت إليه قبل أيام... فبادرني «يبدو لي أنك شيوعي!». وبعدما أجبته بالنفي متسائلاً عن سبب حكمه السريع عليّ، قال هذه قرية فلاحية صغيرة معظم أهلها من الشيوعيين، وبما أنني استغربت أن تكون قد سمعت بها كان من الطبيعي أن أصنفك منهم.

ذلك الحوار نبهني إلى جانب جميل من لبنان ما قبل الحرب، أخذت أتابعه باهتمام، فاكتشفت كيف فرضت أحزاب وقوى وفئات مصلحية معينة حضورها في أماكن وبلدات وقرى بعينها.

فعلى سبيل المثال، كانت هناك بلدات وقرى فيها حضور كثيف ومميز للحزب السوري القومي الاجتماعي، مثل أميون (في قضاء الكورة بشمال لبنان) وعدبل (في عكار بشمال لبنان) والشوير (بجبل لبنان) والنبي عثمان (في شمال البقاع). وفي المقابل كانت هناك بلدات فيها حضور كثيف ومميز للحزب الشيوعي، مثل مدينة الميناء شقيقة طرابلس عاصمة الشمال، وضاحية انطلياس بشمال شرق بيروت، وبلدات وقرى حصرايل (قضاء جبيل بجبل لبنان) وبترومين (الكورة) وعماطور (قضاء الشوف بجبل لبنان) وحولا ودير ميماس وعيترون (في جنوب لبنان) ورعيت (بشرق البقاع). كما كان للبعثيين حضور مهم في بلدات مثل شقرا والشرقية (جنوب لبنان)، وللاشتراكيين ومناصري الكتلة الوطنية وحزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار مواقع قوية في أماكن أخرى تتداخل فيها الولاءات الطائفية والشخصانية والعقائدية.

في هذا «اللبنان» الجميل، «اللبنان» البستان الملون كأجمل لوحات الفسيفساء، كان «أبو أنيس»... جورج حاوي وردة حمراء... بل سنديانة حمراء أكبر من الحياة.

«ابو أنيس» الشيوعي العتيق، ذو الذهن المتوقد والبديهة الحاضرة، «شيخ الشباب» القريب إلى القلب، رغم تباعد اجتهادات السياسة كان احد أروع من أغنوا تلك الساحة واعطوها مذاقها الخاص، قبل أن يسدل الستار وتغطي سماء لبنان الزرقاء غيمة الحرب السوداء.

مع هذا رفض «أبو أنيس» منطق اليأس. رفض حالة الحصار. رفض الاستكانة لحكمة «العين لا تقاوم المخرز». رفض إلا أن يتعزز جمال لبنانه وكمال عروبته بجذوة المقاومة التي كان أول من أطلقها من «الويمبي»... من قلب شارع الحمراء.

إليك يا «ابو أنيس» كل الحب وخالص الشكر...

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)