الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها سورية في الآونة الاخيرة، تحديدا من جانب الولايات المتحدة، تعكس رغبة في إيصال رسالة الى دمشق بأن الانسحاب العسكري من لبنان، ليس كافيا• وأنه لايزال على دمشق القيام بالكثير من أجل الخروج من دائرة الضغط او حتى الخطر•
كان الملفت ان الانتقادات الاميركية بالغة الشدة جاءت في أعقاب المؤتمر القطري لحزب البعث، الذي عزز من موقف الرئيس بشار الاسد ومن توجهاته السياسية داخليا وخارجيا، من دون اي تغييرات او من دون “إصلاحات” فعلية كانت الولايات المتحدة تدفع باتجاهها•
عنوان الموقف الاميركي، ان ما فعلته دمشق حتى الآن ليس كافيا، وليس كافيا بالمرة• وهو إعلان عن ان الولايات المتحدة ما زالت غاضبة بشدة من السياسات والممارسات الرسمية السورية•
بالمقابل فإن دمشق تصرفت في الآونة الاخيرة على انها قدمت كل ما يريده المجتمع الدولي منها، وبالتحديد مسألة الانسحاب الكامل من لبنان• واكثر من ذلك تصرفت على اساس ان النظام بأمان تام، وانه لا يستوجب القيام بالكثير•
تكريس الزعامة
انعكس هذا بوضوح في قرارات المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم، والذي كان يتوقع ان يفتح صفحة جديدة مختلفة تماما على صعيد الوضع الداخلي والعلاقات الخارجية• فالمؤتمر القطري اصر على إبقاء المادة الثامنة من الدستور التي تجعل من الحزب قائدا وموجها للدولة والمجتمع، وكان الكلام عن توجه للفصل بين الحزب والدولة مجرد شعارات من دون اي مضمون فعلي•
وعلى خلاف ما كان متوقعا، فإن ما اوصى به المؤتمر القطري بشأن اصدار قانون لحرية تشكيل الاحزاب ولحرية الصحافة، لا يعدو ان يكون مجرد تصريحات لا يتوقع ان تغير شيئا بالنسبة الى الوضعين الحزبي والاعلامي• فالقيود المتوقعة في قانون الاحزاب، ستفرض قيودا كبيرة على تشكيل الاحزاب ونشاطها، تجعل من تشكيل احزاب معارضة حقيقة، مسألة شبه مستحيلة•
باختصار فإن ما جرى في المؤتمر القطري هو تكريس لزعامة الرئيس بشار الاسد وتكريس لدور الحزب كقيادة للدولة والمجتمع، وتكريس لاحتكار البعث للنفوذ السياسي في البلاد، وتكريس للتوجهات الاقتصادية الحالية، مع تغييرات او تعديلات طفيفة، في اطار اعادة التنظيم•
وكان ملفتا ان المؤتمر القطري دعا الى اصلاحات ’’اقتصادية واجتماعية وادارية’’ دون ان يشير الى اصلاحات سياسية، في اشارة الى ان دمشق غير راغبة الان في فتح موضوع الاصلاح السياسي من اي باب، وغير قابلة بتبني مبدأ تداول السلطة•
هو توجه جوهره ان دمشق تعتبر ان ما جرى على الصعيد الاقليمي في الاعوام الاربعة الاخيرة، لم يضعف موقفها، ولا يجبرها على تغيير مواقفها وسياساتها• وهذا بالتحديد ما يثير غضب الولايات المتحدة الاميركية، التي كانت اعتبرت ان احتلالها للعراق واسقاط البعث العراقي، ووجود قواتها على الحدود مع سوريا، يفترض ان يجبر دمشق على تغيير الكثير من مواقفها•وهو ما يعني بكلام آخر ان دمشق لن تكون مطواعة تماما في الاستجابة للمشروع الاميركي للشرق الاوسط الجديد، وتحديدا للمشروع المطروح لتسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي نهائيا•
وكانت الولايات المتحدة قد وجهت تحذيرا مبطنا الى سوريا قبيل المؤتمر القطري العاشر للبعث• وجاء التحذير على شكل دعوة اميركية موجهة للاتحاد الاوروبي بعد ابرام اتفاقية التجارة الحرة مع دمشق، وفندت واشنطن هذه الدعوة بأنها لا تحبذ تشجيع دمشق على مواصلة سياساتها الحالية•وبدا واضحا ان هذه الرسالة التحذيرية لم تلق صدى يذكر في قرارات مؤتمر البعث ، وبالتالي في توجهات الحكم السوري• وكانت الاشارة التغييرية الوحيدة في المؤتمر، احالة القياديين السابقين مثل عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وزهير مشارقة وغيرهم الى التقاعد السياسي• وهي خطوة لم ينظر اليها على انها تغييرية خصوصا وان هؤلاء القيادات اصلا فقدوا ادوارهم تدريجيا منذ وصول الرئيس بشار الاسد الى السلطة قبل خمسة اعوام•
واعتبر المراقبون ان الخطوات التي اتخذت في المؤتمر عززت من نفوذ الرئيس بشار الاسد الى حد القول ان عهد بشار الاسد بدأ فعليا مع المؤتمر القطري العاشر•
خارج المتغيرات
بالمقابل فإن المؤتمر لم يتخذ اي خطوة بتعديل السياسات تجاه عملية السلام، بل اكد على مواصلة السياسات الحالية، وبالنسبة الى لبنان، فإن المؤتمر لم يعلن اي انتقادات ذاتية بشأن التجربة السورية في لبنان، بل ان المسؤولين عن السياسات السورية في لبنان في الاعوام الاخيرة، جرى ترفيعهم سياسيا وحزبيا•
حتى بالنسبة الى الولايات المتحدة، فإن المؤتمر لم يتخذ اي توصية محددة، سوى الكلام عن مواصلة الحوار• ولم يعلن عن اي انتقاد لاسلوب ادارة العلاقة مع الولايات المتحدة، في اشارة الى ان سوريا لا تعتبر انها ارتكبت اي خطأ في تلك العلاقة• وسواء أكان هذا صحيحا ام لا، الا انه يعني بالنسبة الى الولايات المتحدة ان الحكم في سوريا عازم على عدم التغيير•
والملفت انه برغم التطورات كافة في الاشهر الاخيرة، سواء الانسحاب من لبنان، ام التعرض للضغوط الخارجية، ام الازمة الاقتصادية المستفحلة، فإن المعارضة السورية لم تكسب اي ارضية للحركة الجدية، واستمرت تتحرك بحذر شديد، خشية من ردود فعل الحكم، الذي ما زال يتصرف بشكل واثق جدا•
وهذا ما أعطى الانطباع بأن سوريا ما زالت خارج اطار المتغييرات الجدية في الشرق الاوسط عموما•
ويعني الكلام الاميركي عن استمرار التدخل السوري في الشؤون اللبنانية، وانجرار الامين العام للامم المتحدة كوفي انان الى هذا الموقف، انه برغم الانسحاب من لبنان، فإن اميركا ما زال بإمكانها استخدام الورقة اللبنانية ضد سوريا• وقد صعدت واشنطن في هذا المجال عبر اتهامها دمشق بإعداد لائحة اغتيال لشخصيات لبنانية• ويمكن القول ان من بين الاسباب الاخرى وراء هذا التوجه الاميركي ، التبين بأن الانتخابات البرلمانية اللبنانية، التي تجري في غياب الوجود السوري، لن تغير كثيرا في تركيبة البرلمان اللبناني، وبالتالي، لن تساعد في استكمال تنفيذ القرار ،1559 الذي يطالب بنزع سلاح حزب الله• وهو ما يعني توجها اميركيا الى ابقاء السيف مسلطا على رقبة سوريا والققوى غير الموالية لواشنطن في لبنان• والابقاء على الباب مفتوحا امام تدخل عسكري محتمل في لبنان او ضد سوريا في المستقبل، او على الاقل الابقاء على هذا الاحتمال مطروحا كورقة ضغط قوية ضد دمشق، بهدف اقناعها بالتغيير والتغير••

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)