اعتباراً من اليوم، مع بدء ولاية المجلس النيابي الجديد في لبنان، انتهت صفة المعارضة عن القوى التي ناهضت التمديد للرئيس اميل لحود وتمسكت بالانسحاب السوري وعملت على انهاء النظام الامني المشترك. لقد أصبحت هذه القوى في الحكم، بعد انتصارها الانتخابي الكبير، وباتت هي المسؤولة عن ادارة شؤون البلاد.

ويبدو، حتى الآن، ان هذه القوى التي تتلمس طريقها الى الحكم، تحاول ان تعتمد سياسة التوافق في اقترابها من تسلم السلطة. اذ، رغم الغالبية النيابية المطلقة التي تتمتع بها، ستجدد ولاية رئيس المجلس السابق نبيه بري أحد الاعمدة الاساسية للوجود السوري السابق في لبنان، وما نتج عنه من نظام أمني مشترك استهدف الحريات العامة، وأحياناً الخاصة، وممارسات ارتبطت باتهامات الفساد واستغلال النفوذ والهدر، وصولاً الى رعاية لقاء عين التينة الذي جمع، عشية تنفيذ سورية للقرار الدولي 1559، قوى الموالاة السابقة (وبينها «حزب الله») ليطالب ببقاء القوات السورية. وستطوى أيضاً صفحة إقالة رئيس الجمهورية الذي كان موضع اتهام مباشر في كل ما شكت منه المعارضة، بما في ذلك الموجه الى بري مضافة اليه الاغتيالات.

اذا وضعنا جانباً الجانب الجنائي من هذه الاتهامات وهو ليس بالقليل، ارتبطت التبريرات المقدمة لتجديد ولاية بري أساساً بانه مرشح الغالبية النيابية الشيعية، ما دام يلقى دعم «حزب الله» اضافة الى حركة «امل»، وان أي سعي لازاحته يعني رسالة سلبية الى الشيعة. كما ان التمسك باقالة لحود سيكون رسالة مماثلة الى المسيحيين ما دام البطريرك صفير، وقوى مسيحية أخرى بينها تيار الجنرال ميشال عون، يدعم بقاءه حتى نهاية الولاية الممددة.

فيكون مسرح التغيير الوحيد المتاح للغالبية الجديدة هو الحكومة ورئاستها. اي ان كل التغيرات الكبيرة التي شهدها لبنان والانتصار الكبير في الانتخابات سيتيح فقط للغالبية الجديدة، رغم التنوع الطائفي في صفوفها، التغيير في المناصب الوزارية ورئاسة الحكومة المخصصة للسنة.

في هذا المعنى، لا تبدو سياسة التوافق خياراً سياسياً. وانما بديل وحيد عن الاشتباك بين الطوائف، في ظل المعادلة التي أرساها اتفاق الطائف «تقاسم السلطة ومسؤولياتها بحسب الاشخاص وفق البرمجة السورية» والقانون الانتخابي الذي لم يكن ممكناً ان يؤدي، رغم جريمة اغتيال رفيق الحريري والانسحاب السوري، الى غير ما أدى اليه. اي اقتراع طائفي، بمعنى اختيار ممثل الطائفة في السلطة واعتبار أي مس بهذا التمثيل تعدياً على حقوق الطائفة.

وقد يكون كسر هذه المعادلة من المهمات الاستثنائية في صعوبتها امام المجلس النيابي الذي لا يخلو من منتخبين يدركون حجم الضرر الكبير اللاحق بالدولة والمواطن من جراء تضخم الكيانات الطائفية. وفي ظل مراعاة مثل هذه الحساسيات، لن تكون الحكومة المقبلة اكثر من حكومة تصريف أعمال. ستظل هذه الدوامة قائمة، ما لم يتحول المجلس النيابي، في مرحلة ما، الى جمعية تأسيسية تشرع لاعادة الاعتبار الى الدولة والمواطن، وللحد من طغيان الكيانات الطائفية.

وفي حال نجحت الغالبية الجديدة في مثل هذه المهمة الاجرائية، «وضع قوانين انتخابية تتيح تمثيلاً مختلطاً على أساس برامج سياسية تتجاوز الشخص - الرمز الطائفي، وتفعيل الادارة والمحاسبة والقضاء والحد من الفساد الخ...»، تبقى أمامها مهمة أقسى من الاولى، وهي مهمة تفكيك النظام الامني.

ثمة اتجاه تبسيطي يختزل هذا النظام بوجوه معينة ورؤساء أجهزة، بدلاً من العودة الى الظروف التي نشأ فيها واستمد منها قوته. صحيح ارتبطت هذه الظروف بالوجود السوري، لكنها ارتبطت أيضاً بالموقف الرسمي من المقاومة والحفاظ عليها، وبما سمي بالعقيدة الدفاعية في ظل المواجهة مع اسرائيل. اي تحول الدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية الى حاضنة لهذه المقاومة، وتبرير كل ما يصدر عن النظام الامني بالمعركة ضد اسرائيل. أي ان هذه العقيدة هي التي احتضنت، ايديولوجيا، النظام الامني الحالي. لا يعني ذلك ان النظام الامني لا ينشأ الا في ظل المقاومة، وانما يعني ان التحول في العقيدة الدفاعية، بعد اتفاق الطائف، ربط النظام الامني بالبعد الاقليمي والصراع مع اسرائيل. ومن هنا التردد والغموض الذي يصاحب المواقف من الشق الداخلي من القرار 1559. ففي تنفيذه تغيير للعقيدة القتالية الرسمية، وهذا ما ينفيه أقطاب الغالبية الجديدة. ورفض التعامل معه، كما يؤكد هؤلاء، يقتضي تأمين الحماية الامنية والسياسية لهذا السلاح. وتالياً ابقاء الاجهزة الامنية في وضع قوي وقادر على التدخل ازاء اي تهديد داخلي او خارجي “حقيقي او مفتعل”، مع ما يستتبعه ذلك من الضغط في اتجاه دون آخر لضمان شبكة الامان السياسي. ويزداد حل هذه المعضلة تعقيداً مع أي استهداف اسرائيلي لايران وسورية اللتين شكلتا العمق الاستراتيجي لهذه المقاومة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)