ليست المرة الأولى في سوريا التي يعلن فيها رسمياً عن الرغبة في تحجيم حضور قوانين الطوارىء والأحكام العرفية والحد من دورها في الحياة العامة. لكنها المرة الأولى التي تصدر على شكل توصية من المؤتمر العاشر لحزب البعث ربطاً مع حصر استخدامها في ما يمس قضايا أمن الوطن فقط!! والمعنى الصريح من هذه التوصية بعكس الشائعات التي سرت قبل انعقاد المؤتمر وهو إصرار النخبة الحاكمة على تثبيت حالة الطوارىء، بدل رفعها، مع تجميلها بعبارة "حصر الاستخدام"، ربما للتخفيف من تواتر الضغوط التي لا تزال تنتقد إدمانها على إدارة الحياة السورية وفق قوانين الاستثناء، وأيضاً لامتصاص أصوات كثيرة ارتفعت من مختلف القطاعات الاجتماعية والثقافية، حتى من داخل حزب البعث نفسه، احتجاجاً على تطبيق حالة الطوارىء لعقود وعقود، خصوصاً إن استمرارها بات يشكل في حد ذاته مخالفة دستورية طالب العديد من الفاعليات القانونية إزالتها، إذ يحدد الدستور السوري شرطين اثنين لإعلان حالة الطوارىء، هما الحرب أو الكوارث العامة والزلازل.

وطالما أصبح مجتمعنا موضوعياً خارج حالة الحرب مع إسرائيل وخاض مفاوضات مباشرة معها منذ مؤتمر مدريد عام 1991، وفي ضوء خيار استراتيجي معلن بالسلام ومعرفة القاصي قبل الداني أن جبهة الجولان المحتل هي من أهدأ الجبهات وأكثرها انضباطاً، وطالما نبتهل جميعنا كي تبقى بلادنا بمنأى أبداً عن الكوارث والزلازل، فأي معنى عندها لاستمرار حالة الطوارىء وسريان الأحكام العرفية إلا دورها في ضبط الداخل وفي إطلاق يد الأجهزة التنفيذية والأمنية لإحكام السيطرة التامة عليه؟!

طبعاً ليس ثمة سبب آخر مقنع يمكن أن يفسر هذا التمسك المزمن بسلاح قوانين الطوارىء والأحكام العرفية، على الرغم من نجاح النخبة الحاكمة وطوال سنوات في بناء قوى وأجهزة قادرة، وإرساء حزمة متكاملة من القوانين والمراسيم والصلاحيات توفر لها حتى في حال رفعت حالة الطوارىء استمرار الهيمنة والسيطرة على مختلف أنشطة الحياة بصورة يصعب اختراقها بأي حال، ناهيكم عن نجاحها في تهميش السلطتين القضائية والتشريعية وافسادهما واخضاعهما تماماً لمشيئتها، بحيث لم تعد لهما أدنى حيل أو مصلحة في رسم مسافة تميزهما عن السلطة التنفيذية فكيف الاعتراض عليها.

بديهي أن رفع حالة الطوارىء يمكن أن يخلق بعض الارباكات والصعوبات لقوى وأجهزة تعودت لسنين طوال على إدارة البلاد دون قيود أو ضوابط، خاصة عندما تمتحن سطوتها أمام شرط جديد لا مكان فيه لاستباحة الاعتقال التعسفي وإذلال المواطن والتنكيل بحقوقه، ويفقدها القدرة على فرض ما تشاء من القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل، كما في مراقبة الرسائل والمكالمات الهاتفية والصحف والنشرات والمؤلفات والرسوم وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها! مثلما نص البندان "أ" و "ب" من المادة "4" من قانون الطوارىء السوري.

لكن جوهر المعضلة لا يكمن فقط في الصعوبات والارباكات الناجمة عن تغيير قواعد اللعبة السياسية التي اعتادت السلطة إدارتها وأخضعت الجميع لها، أو بسبب تنامي مخاوف لديها بأن الأمور في حال رفعت حالة الطوارىء وتبدلت شروط السيطرة قد تفلت من اليد وتندفع نحو تطورات قد لا تحمد عقباها، وإنما يكمن أيضاً وأساساً في العقلية الوصائية السائدة التي حكمت حياتنا السياسية ولا تزال، والتي تضع الشرعية الوطنية فوق كل أمر واعتبار، فوق القانون وفوق حاجات الناس ومصالحهم، جاعلة من السلطة وصياً على الوطن ومرجعاً أحادياً لا مكان في دنياه لاحترام التعددية والرأي الآخر، وناشرة لدى الناس وعياً زائفاً بالقصور والدونية وبأنهم عاجزون عن اتخاذ القرارات السليمة ويحتاجون إلى حامٍ لتطلعاتهم الكبرى أو وصي ينوب عنهم في إدارة قضاياهم الوطنية والقومية.

فبأي حق تستمر معاملتنا نحن السوريين كأناس قُصّر ودون سن الرشد، ولماذا لا يحق لنا أن نعيش حياتنا في ظل قوانين عادية وطبيعية ؟! وعلى أي أساس تغدو حالة الطوارىء قاعدة ثابتة وراسخة في بلادنا، لا تطبق كما يعنيه اسمها بصفتها حالة طارئة أو موقتة، وتستخدم فقط عندما تستدعيها الأسباب التي نص عليها الدستور لتعود الأمور الى طبيعتها بعد انتهاء الظرف الاستثنائي؟!

ثم ماذا يعني ربط تطبيقها بالحالات التي تمس أمن الوطن، ومن هي المرجعية التي تحدد معايير الأمن الوطني؟! لطالما نجحت النخبة الحاكمة في خلق حالة تماهٍ بينها وبين الوطن، وأصبحت في خصوصية الحال السورية هي الوصي والوكيل الحصري على الوطن وأمنه!!

نعرف جميعنا كم هي هذه العبارات العامة، مبهمة ومطاطة، ويمكن شدها وتوظيفها بما يخدم حاجات النخبة الحاكمة للامعان في قهر المجتمع ومعاقبة خصومها ومعارضيها، خصوصاً في بلاد أصبحت السلطات القضائية فيه مفسدة ومرتهنة عضوياً لأصحاب القرار السياسي. ونذكر في هذا الإهاب مفارقات طريفة حصلت مع المئات من السجناء الشيوعيين وهم أشد السياسيين دفاعاً عن الاشتراكية وقد أحيلوا الى محكمة أمن الدولة العليا وأنزلت بهم عقوبات قاسية بتهمة مناهضة النظام الاشتراكي!! وغيرهم من القوميين الأقحاح وقد أدينوا وحكموا بتهمة معاداة الوحدة العربية!! ثم ليس عجباً أن تسمع في مستقبل قريب أن أشد أنصار الديموقراطية والسلم الأهلي قد أحيلوا الى المحاكم العرفية والاستثنائية بذريعة المساس بأمن الوطن!! وتالياً كيف يمكن أن تفسر الاعتقالات التي طاولت اخيراً بعض النشطاء السياسيين والحقوقيين، نزار رستناوي وعلي العبدالله من نشطاء المجتمع المدني، ومحمد رعدون رئيس المنظمة العربية لحقوق الانسان، ومن ثم أعضاء مجلس إدارة منتدى الأتاسي للحوار ثم إطلاق سراحهم بعد أيام، وأخيراً وربما ليس آخراً الناشطين محمد ديب وحبيب صالح، أهي لأسباب تمس بأمن الوطن أم يمكن إدراجها تحت عنوان الحد من دور قوانين الطوارىء وتدخل الأجهزة الأمنية في حياة الموطن السوري؟!

إذا سلمنا جدلاً بأن ثمة جدية في تحجيم حضور قوانين الطوارىء في المرحلة المقبلة، وإذا سلمنا واعترفنا بإجراءات شهدتها السنوات القليلة المنصرمة حدّت نسبياً من دور الأحكام العرفية في الحياة العامة، فلا بد من القول أيضاً بأن بقاء حالة الطوارىء معلنة، وبتفويض من مؤتمر الحزب الحاكم، هو بمثابة سيف مصلت على الرقاب يمكن اللجوء إليه متى شاءت السلطة ورغبت، أو لنقل أشبه برسالة صريحة بأن العقلية ذاتها مستمرة وبأن لا شيء تغيّر أو يمكن أن يتغير، وأن الشروط الاستثنائية في إدارة البلاد هي حاضرة أبداً مثلما القبضة الحديد جاهزة ً أيضاً ضد أي طرف يستشعر النظام منه أدنى تهديد أو خطر!! ربما يبدو ضرباً من الخيال أو نوعاً من الأمنيات البعيدة أن يتوقع المرء رفع حالة الطوارىء في سوريا وقد غدت صنو حكم حزب البعث، فكيف إذا كان بعض السلطة يعتبرها خياراً بين الموت والحياة، والبعض الآخر لا يمكنه أن يتصور أسلوباً آخر غير القوة والقمع لضمان السيطرة والسيادة؟ الأمر الذي يضفي على مطلب رفع حالة الطوارىء وإلغاء الأحكام العرفية أولوية وأهمية خاصة لدى الديموقراطيين السوريين، فهو ليس ترفاً أو غرضاً تكتيكياً لتحسين شروط العمل السياسي المعارض وكف يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في كل شاردة وواردة فحسب، وإنما الأهم بصفته ممراً إجبارياً نحو خلق مناخ صحي يدشن مرحلة جديدة في علاقة السلطة مع المجتمع تحكمها قوانين عادية ووضوح في الحقوق والواجبات وتستند الى فصل السلطات واستقلاليتها والى سيادة حقيقية للقانون وأن لا أحد فوقه، لا الحكام ولا الثورات ولا الشرعية الوطنية، بما يوفر فرصة ضرورية في ظل التحديات الراهنة لكسر حاجز الخوف وقتل " البعبع " الذي تغلغل عميقاً في نفوس البشر ونأى بهم عن دورهم في المشاركة، خصوصاً أن أجيالاً عديدة لم تعش الحياة القانونية الطبيعية، فولدت وترعرعت وبلغ بعضها الأربعين عاماً وهي ترزح تحت وطأة قوانين الطوارىء والأحكام العرفية.

ان الثقافة السياسية السائدة التي أرستها حالة الطوارىء والآليات النافذة على مستوى السلطة جعلت الناس مجرد تابعين لا يجرؤون على التعبير عن آرائهم وإرادتهم، بينما مع إزالة حالة الطوارىء تنمو ثقافة جديدة تعيد الاعتبار للقوانين العادية كنواظم فاعلة في حياة البشر، وتطلق دور الإنسان وتحرره من الخوف والقهر والوصاية.

ان استمرار حالة الطوارىء وتسويغ قمع الآخر وإلغاء دوره ربما يمنح السلطة انتصاراً موقتاً لكنه في الظروف العصيبة التي نعيشها والتي يرجح أن تزداد صعوبة لن يكون إلا هزيمة كبرى للمجتمع ككل.

مصادر
النهار (لبنان)