آخر الانجازات المهمة لمحكمة امن الدولة في سوريا، اصدارها حكماً بالاعدام على الشاب السوري مصعب الحريري البالغ من العمر سبعة عشر عاماً، وذلك بالاستناد الى القانون رقم 49 القاضي بالحكم بالاعدام على كل من ينتمي الى جماعة الاخوان المسلمين، ثم لاسباب ارتأتها المحكمة العتيدة جرى تخفيض الحكم الى ست سنوات سَجناً.
وصدور الحكم على مصعب الحريري، يدفع للتوقف عند بعض تفاصيل قضيته، والاهم في هذه التفاصيل، ان الحريري ولد في نهاية العام 1986 لابوين سوريين مقيمين في السعودية منذ بداية الثمانينيات، حيث غادر الاب الذي كان موظفاً رسمياً في محافظة درعا للعمل في السعودية عام 1981، ثم تبعته الام في العام التالي بتأشيرة خروج رسمية، واقامت الاسرة هناك كل الوقت التالي.

والتطور الاهم في حياة مصعب الحريري، كان في نيسان عام 2002 عندما قررت والدته العودة مع بناتها الخمس وولدها الى سوريا، وفي مركز الحدود ابلغت ضرورة مراجعة احد الفروع الامنية، وان يراجع ولدها الذي كان في الرابعة عشر من عمره فرعاً آخر، وكان من سوء حظ ابنها، ان جرى توقيفه لمدة ثلاث سنوات قبل ان تتم احالته العام الماضي على محكمة امن الدولة بتهمة الانتماء الى جماعة الاخوان المسلمين المحظورة ونتيجتها صدر عليه الحكم العتيد.

ومحكمة امن الدولة في سوريا هي مثال للقضاء الاستثنائي، بل هي وريثة احدى تجاربه، التي ولدت في ظل حالة الطوارئ واعلان الاحكام العرفية القائمة منذ العام 1963، حيث صدر في العام 1968 مرسوم بإحداث محكمة أمن الدولة لتحل مكان المحكمة العسكرية، التي كانت تتولى محاكمات مناهضي اهداف الثورة والنظام الاشتراكي حسب المرسومين رقم 4 ورقم 6، واضيف الى هاتين المهمتين من مهام محكمة امن الدولة كل ما يمكن ان يحال عليها من جانب الحاكم العرفي او نائبه تحت عنوان قضايا امن الدولة، وفي تاريخها كثير من قضايا لا تتصل بهذا العنوان، لكن تم ادراجها تحته.

لقد تحولت هذه المحكمة طوال عقود من تاريخ سوريا الى قوة ساحقة، وبدلا من ان يكون القضاء مكاناً للحق والعدل، تحولت محكمة امن الدولة الى قوة مخيفة، ويكفي ان يحال أي شخص امامها ليتوقع اشد الاحكام قسوة. وهذه المحكمة اصدرت احكامها في قضايا الجماعات السياسية المعارضة ومنها جماعة الاخوان المسلمين، كما اصدرت احكاماً بحق نشطاء سياسيين وحقوقيين وغيرهم كثير.

ورغم ملامح الشدة والقسوة التي تميزت بها المحكمة لكثير من الوقت، فإن ذلك لم يمنع رجال قضاء وقانون سوريين من القول بعدم شرعية هذه المحكمة وعدم دستوريتها بالاستناد الى حيثيات دستورية وقانونية، من بينها ان انشاء المحكمة تم بناء على اعلان حالة الطوارئ وهي حالة غير دستورية، وانها جاءت من خارج السلطة القضائية وتشكيلاتها، حيث لا يشترط ان يكون رئيس واعضاء المحكمة من القانونيين ومن رجال القضاء، والمحكمة لا تلتزم بالمعايير القضائية، وقرارات قضاتها بمن فيهم قاضي التحقيق غير قابلة للطعن والنقض، وفوق ذلك كله فإن المحكمة غير ملتزمة بالاجراءات المتبعة في القضاء السوري.

لقد جعل واقع الحال محكمة امن الدولة محكمة سياسية بامتياز، خاصة مع تولي رئاستها من عدد من اعضاء القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم الذين حولوا المحكمة الى قوة “قانونية” لتصفية الخصوم السياسيين، ونصّب بعضهم نفسه خصماً مباشراً للمتهمين الذين جرت محاكمتهم امامها، وهو وضع شكك الى جانب اسباب اخرى بنتائج المحاكمات التي تمت والاحكام التي صدرت في احيان كثيرة.

ويحاكم امام محكمة امن الدولة اليوم سوريون أكراد بتهم منها “محاولة اقتطاع جزء من الاراضي السورية وضمه لاراضي اجنبية والانتساب لحزب محظور، والاساءة للعلاقات مع دولة صديقة، والمقصود بها تركيا”؛ وآخرون بتهم من بينها “التعامل مع مخابرات النظام العراقي السابق”، و“الانتماء الى المجلس الثوري «ابو نضال»” وغيرهم على “خلفية اسلامية” و“الرغبة في التسلل الى العراق”، وتهمة “الانتماء الى تنظيم وهابي”، و“إضعاف عزيمة الامة”، ومعظمها تهم غير ذات اهمية، وبعضها لا يتعدى الشك في النوايا، وهي في اغلبها لا تتصل بموضوع “امن الدولة” الا من خلال التفكير الامني التقليدي الذي يرى ان الامور كلها مترابطة، وان توقف سيارة في شارع فرعي في قرية نائية امر يلحق الضرر ب“امن الدولة”.

خلاصة القول، ان الواقع يدفع بإلحاح لوضع حد ونهاية لهذه المحكمة في الحياة السورية، وهذا يتوافق مع الاعلانات الرسمية في ضرورات الاصلاح وخاصة في القضاء، وتقييد التدخلات الامنية في الحياة العامة للسوريين ومحكمة امن الدولة منها، واستعادة روح القضاء العادي، وانهاء الاستثناءات. وقد يكون السبب الاهم الداعي لاغلاق ابواب هذه المحكمة العمل على تجاوز ما خلفته هذه المحكمة من جروح في حياة وارواح السوريين في المراحل الماضية. واذ تقرر اغلاق هذه المحكمة فلن ننشغل كثيراً بما سيؤول اليه حال مبناها الذي يمكن ان يتحول الى مدرسة او مؤسسة للنفع العام، وعندها ستكون فائدة المبنى أكبر بكثير مما هي عليه الآن.

مصادر
السفير (لبنان)