لا شك في ان مؤتمر حزب البعث المقبل سيكون محطة مفصلية في تاريخ سوريا الحديث، أو على الاقل ما يغطي العقود الاربعة المنصرمة منذ استلام الحزب مقاليد السلطة في ستينات القرن الماضي. وهذه الاهمية التي يكتسبها المؤتمر لا تنبثق عما قد يصدر عنه من مقررات باتت معروفة تقريبا وحسب، بل عن كونه، وبفعل عوامل داخلية وخارجية متعددة، قد يشكل نقطة افتراق بين تاريخين، حيث تلتقي مختلف الرهانات على اعتبار أن “ساعة الحقيقة” قد حانت في سوريا وبات مطلوبا من الجميع، بما في ذلك النظام، تحديد خياراتهم بأعلى قدر من الوضوح تحت طائلة اسقاطهم من المعادلة التي هي قيد التشكل بفعل تفاعلات داخلية وخارجية متسارعة تموج بها المنطقة بأسرها.

واذا كانت التوقعات والآمال تتوسل أن يطلق المؤتمر حراكا سياسيا وفكريا لاعادة تعريف الدولة السورية الحديثة بما يشتمل على اجراء مراجعة نقدية شاملة للسياسات والخيارات التي سارت عليها البلاد داخليا وخارجيا خلال العقود الماضية، فان انعقاد المؤتمر على قاعدة الافتراض بأن التغيير سينبثق من داخل السلطة وعبر الاشخاص أنفسهم الذين أوصلوا البلاد الى مأزقها الراهن يثير اشكالات عدة لكنه لا يلغي الحاجة لقبول هذا الافتراض بصفته واقعا لا بديل منه خاصة أنه ينهض على حقيقتين: غالبية صامتة تنتظر وتترقب، لكنها تفتقر لأدوات التعبيرعن نفسها، ومعارضة قيد التبلور لا تزال بلا برامج أو قاعدة شعبية منظمة أو صلات دولية.

فالتعويل على الاصلاح الذاتي للسلطة ،ممثلة بالحزب الحاكم، هو خيار “اضطراري” في ظل غياب اي بديل واقعي آخر بسبب سقوط “النموذج العراقي” في الساحة الشعبية العربية، وربما في الحسابات الاستراتيجية الاميركية، في حين لم تكتمل عوامل نجاح “النموذج اللبناني” بالنظر الى ضعف حال المعارضة السورية وهشاشة علاقاتها الخارجية، اضافة الى حساسية السوريين تجاه أي دور فج للعامل الخارجي تحت وطأة ثقافة يقال أنها متجذرة وتنظر بسلبية الى أية قوى تستمد قوتها من خارج الحدود.

واذا امعنا النظر في الاسباب التي قد تدفع السلطة للتماهي مع مطالب التغيير فسنجد أن غالبيتها ذات طابع تكتيكي، من باب “احناء الرأس للعاصفة” ولا تعبر تاليا عن اقتناع فعلي بأن التغيير خيار لا بديل منه ويجب المضي فيه الى آخر استحقاقاته وما يتطلب ذلك من "تضحيات" من جانب أبناء السلطة ومن تعديلات جوهرية في مسارات طالما اعتبرت “استراتيجية” وتمد النظام بالكثير من عناصر شرعيته.

لقد عجّلت احداث لبنان الاخيرة التفكير لدى النظام في اتجاه اعادة صوغ الذات لترميم بعض الضرر الذي لحق بصورته في الذاكرة الوطنية. وعملية الترميم هذه تأخذ في الحسبان هذه المرة العوامل الداخلية في ضوء اصرار الخارج ليس على تحجيم دور سوريا الاقليمي وحسب، بل وتهديد نظامها في عقر داره، مما أعطى بعض الزخم للدعوات التي توجهها قوى المعارضة السورية للنظام من اجل توفير بيئة محلية مواتية تمكنه من الاستقواء الفعلي بالناس والمجتمع في وجه ضغوط الخارج.

والسؤال المطروح الآن هو هل: لدى اركان النظام تصور واضح عن المدى الذي هم مستعدون لبلوغه على طريق “مسايرة” دعوات الاصلاح والتحول الديموقراطي والتي يتفاعلون معها اساسا تحت ضغط حسابات خارجية؟ وهل يصلح مؤتمر الحزب ليكون القابلة القانونية والشرعية للتغييرات المنتظرة؟

لقد دعا العديد من القوى الى عقد “مؤتمر وطني” جامع يبت بشأن هذه التغييرات من بينها “الاخوان المسلمين” الذين امهلوا السلطة ثلاثة اشهر من اجل الاستجابة لدعوتهم. ولعل مثل هذا المؤتمر هو ما كانت تحتاج اليه البلاد التي تعيش أزمة شاملة لا تخص حزب البعث وحده، وهذا ما يفسر الآمال الكبيرة التي تعلق على مؤتمر الحزب بصفته تعويضا ما عن غياب المؤتمر الوطني المنشود، رغم ان هذا المؤتمر غير مخول البت بالعديد من المسائل التي تدخل في صلب التغييرات المرجوة مثل اقرار قانون للاحزاب أو تغيير بعض المواد الدستورية أوحتى الغاء قانون الطوارئ أو القانون الخاص بتجريم الانتماء لجماعة “الاخوان المسلمين”...الخ

الا أن دوره الاهم قد يتمثل في خلق بيئة مواتية لاطلاق حراك سياسي جديد يقود الى التغييرات المنشودة . والاساسي في ذلك هو ان يغير الحزب نفسه ويتخلى عن شعار قيادة الدولة والمجتمع ويطرح نفسه على قدم المساواة مع بقية الاحزاب لجهة علاقته مع السلطة والمجتمع فلا يستأثر بالموارد المالية والمنابر الاعلامية، مما يفرش لاحقا أمام القيادة السياسية كي تصدر قانونا جديدا للتعددية الحزبية بعيدا عن الاطار الحالي الذي لم يعد مقنعا والمتمثل بصيغة “الجبهة الوطنية التقدمية”.

ولعل الحزب يحقق لنفسه انجازا مهما اذا أفرز بطريقة واضحة “فريقا اصلاحيا” قويا الى القيادة القطرية تحت اي مسمى جديد قد تتخذه هذه القيادة، لأنه حينذاك قد يتمكن من مواكبة المرحلة المقبلة وربما لعب دوراً قيادياً فيها خاصة اذا تذكرنا ان البعث في اصوله الاولى، اي قبل تسلمه السلطة عام 1963، لم يكن حزبا شموليا الغائيا بل كان اقرب ما يكون الى الحزب الديموقراطي وشارك بفاعلية في الحياة السياسية والبرلمانية السورية بعد الاستقلال.

غير أن التحدي الذي يبرز هنا هو حول مدى اهلية ممثلي الحزب الذين فازوا في الانتخابات لمناقشة واقرار خطوات كبيرة ومفصلية في حياة البلاد خاصة اذا علمنا أن غالبيتهم الساحقة “أكثر من 90%” هم مفاصل الحزب التقليدية والذين ليس لديهم سوى فكرة محدودة عن حجم المأزق الذي تواجهه البلاد وماهية الحلول الممكنة، ومعظمهم مستعد للتصفيق الحار لأي خطاب أو “توجيه” يأتيهم من القيادة العليا. وهذا الواقع دفع بعض القوى الى مناشدة السلطات السماح لشخصيات أكثر تأهيلا لكنها لم تفز في الانتخابات بالمشاركة في المؤتمر، وهو ما جرى الاستجابة له جزئيا وسمح للعديد منهم بالمشاركة بصفة مراقب بينهم أعضاء اللجان التي تشكلت لتطوير فكر الحزب والذين أخفق معظمهم في الوصول الى المؤتمر عبر الانتخابات!

لا بد من الاقرار بوضوح بأن الحزب وطوال العقود الماضية لم يكن بفكره ولا بروحه القائد الفعلي للدولة والمجتمع ، بل جرى استخدامه كمظلة وتشاركت قيادته مع السلطة في الغنائم والمفاسد، وهو اذ تناط به اليوم مهمة اعادة الابحار بالسفينة المعطوبة، انما يواصل القيام بالمهمة نفسها، أي المظلة لتخريج قرارات متخذة مسبقا على الارجح من المستوى السياسي- الامني، ومن المستبعد أن يجري أي نقاش جدي بشأنها داخل مؤتمر الحزب ليس بسبب عدم اهلية معظم أعضاء المؤتمر لمناقشة قضايا مصيرية وحسب، بل لأنه سيكون من الحمق ان نفترض أن الفريق الذي يحكم فعلا يمكن ان يسلم مصيره ومصير البلاد لكتلة كبيرة من الاشخاص هم اعضاء المؤتمر، والذين على اية حال لا يخطر في بال أي منهم انه ذاهب الى مهمة بهذا الحجم.

والحقيقة الاخرى المكملة للنقطة الاولى هي ان القطاع الاوسع من جسم السلطة بما في ذلك قيادة الحزب، منشغل بالحفاظ على نفسه ونفوذه وامتيازاته، وهو يقيس موقفه من أية اصلاحات بمقدار ما تحمي مصالحه أو لا تهددها، لذلك فان الحديث عن اصلاحات تنطلق من قاعدة السلطة الى قمتها غير واقعي بالنسبة الى الحالة السورية الراهنة، والاكثر واقعية أن ننتظر قرارات تدفع قضية الاصلاح من القمة، وتحديدا من الرئيس بشار الاسد وفريقه المفترض، والتي لا بد أن تتخذ أحيانا شكل الاكراه، ومثل هذه القرارات هي التي ستحدد السقف الذي قد تمضي اليه العملية برمتها، على الاقل في المرحلة الراهنة.

والحديث هنا يقتصر طبعا على التصورات المحتملة لتفاعل قضية الاصلاح داخل جسم السلطة، دون الاخذ في الاعتبار مواقف قوى المعارضة والمجتمع المدني في سوريا والتي يجب الاقرار ايضا بأن مساهمتها لا تزال محدودة وتقتصر تقريبا على تكرار مطالب معروفة مثل الغاء حالة الطوارئ والافراج عن السجناء السياسيين واطلاق الحريات دون أن تتقدم ببرامج سياسية متكاملة تطرح بديلا وطنيا، سياسيا واقتصاديا للوضع الراهن.

وفي كل حال، فان قدرة السلطة على ضبط الحراك الذي من المرجح ان يتفجر على نحو لافت بعد مؤتمر الحزب، ستكون وربما لأول مرة محدودة ومقيدة، بغض النظر عن السقف الذي ستبلغه قرارات المؤتمر. وستكون هناك مبررات قوية لتصعيد هذا الحراك مما قد يقود الى مواجهات مع السلطة اذا اختارت الاخيرة اللجوء الى القمع عوضا عن المشاركة والتحاور مع القوى الجديدة خاصة انه سيترافق مع عوامل ضغط خارجية مثل لجنة التحقيق في اغتيال الحريري والاشتراطات التي يضعها الاوروبيون مقابل توقيع اتفاق الشراكة مع سوريا وتصاعد وتيرة التغييرات الداخلية في المحيط الاقليمي بما في ذلك مصر.

والقوى التي قد تبرز خلال المرحلة المقبلة لا بد في النهاية ان تمثل التيارات التقليدية في الساحة العربية برغم غياب ممثلي بعض هذه القوى خلال الحقبة الماضية في الساحة السورية أو تراجعهم بفعل طغيان تيار واحد واستبداده هو الفكر القومي ممثلا خاصة بحزب البعث. غير ان النكسات التي ألمت بهذا التيار فكراً وممارسة، خاصة ما جرى لحزب البعث في العراق، كان لا بد ان تطفىء بعض بريقه في سوريا مقابل تصاعد الدعوات لسورنة اهتمامات البلاد وايلاء الاولوية للداخل السوري بعد ان اختطفت “القضايا القومية”اهتمامات السوريين خلال العقود الفائتة أو ان قيادتهم اتخذت منها ذريعة للتهرب من استحقاقات الاوضاع الداخلية بحسب ما ترى المعارضة السورية.

والتياران الابرز اللذان غابا أو غُيّبا عن الساحة السورية طوال العقود الماضية وهما “الاسلامي” و“الليبرالي” باتت الان كل الظروف مهيأة لعودتهما القوية في ظل بيئة اقليمية ودولية مواتية تماما لهما ومناهضة الى حد ما للتيار القومي. ولعل الاشكالية التي تواجه جميع الاطراف هي عن ماهية ممثلي التيار الاسلامي حيث لم تنجح جماعة “الاخوان المسلمين” برغم ما طرأ على خطابها من تجديد ومرونة في تبديد مخاوف النظام بل وبعض القوى الاخرى في المجتمع السوري التي تتخوف من أي حضور قوي لما تعتبره قوى اصولية في الساحة السورية التي تبدو محتقنة ضد الكثير من ممارسات النظام الحالي وجاهزة تاليا لقبول أية بدائل مغايرة، بينما لا تزال القوى الاسلامية الاخرى في مرحلة الكمون، أو أنها لم تفصح بعد عن مدى حضورها وطبيعة طروحاتها ويمثلها بشكل خاص الدكتور محمد حبش رئيس مركز الدراسات الاسلامية في دمشق وأتباع مفتي الجمهورية الراحل الشيخ احمد كفتارو وكلاهما يمثل بوجه عام خطا معتدلا في التيار الاسلامي. اما طبقة التجار والبورجوازية الجديدة فلم يبرز بعد بشكل واضح ممثلوها السياسيون.

وكان عضو مجلس الشعب المعتقل حاليا رياض سيف يمثل الارهاص الابرز لهذه القوى عبر الاطار الذي اعلن عن تأسيسه “حركة السلم الاجتماعي” وتشير معطيات عديدة الى ان المرحلة المقبلة قد تشهد تنافسا على تمثيل هذه القوى التي تمثل جسما أصيلا في المجتمع السوري جرى اقصاؤه بعنف بعد استلام حزب البعث السلطة عبر حركة التأميم، وظل طوال العقود الماضية على هامش العملية السياسية، في حين صعدت الى السطح نماذج جديدة من البورجوازية وأصحاب الرساميل ممن تثار شكوك حول مصادر ثروتهم وغالبيتهم من أبناء المسؤولين الذين يستعدون لدخول السياسة من باب المال بعدما احترقت أو تكاد اوراق ذويهم حتى صار ارث الاباء في بعض الاحيان عبئا يسعى هؤلاء الابناء للتبرؤ منه باعتبار أنه قد يعرقل جهودهم لدخول معترك الحياة العامة.

مصادر
النهار (لبنان)