ما حدث في مجلس النواب الثلثاء “28 حزيران” باعادة انتخاب الرئيس نبيه بري لولاية رابعة على رأس السلطة الاشتراعية كان بمثابة زواج مثالي بين تاريخين: 8 آذار و14 آذار. والاصح انه زواج مثالي بين “تظاهرة الوفاء لسوريا” و“تظاهرة انتفاضة الاستقلال”. والتظاهرتان ليستا متلازمتين ولا احداهما مكملة للاخرى وانما العكس.

فرداً على الاولى التي حشدت في ساحة رياض الصلح اقل من مليون متظاهر، اتت الثانية الى ساحة الشهداء باكثر من مليون. الاولى دافعت عن سوريا وقالت ان مئات ألوف من اللبنانيين أوفياء لها ويفكرون بطريقة مختلفة، والأخرى اطلقت الانتفاضة على وجودها في لبنان لأنها جردته من سيادته واستقلاله وحريته وفرضت وصايتها عليه. في الاولى كان “لقاء عين التينة” وقطباه بري و“حزب الله”، وفي الثانية “لقاء البريستول” باقطابه آل الحريري والنائب وليد جنبلاط و“لقاء قرنة شهوان”. واقع ساحة ضد ساحة أنذر يومذاك بانقسام وطني خطير. الطائفة الشيعية في 8 آذار على طرف نقيض من التحالف السني – الدرزي - المسيحي في 14 آذار. وكادت الطائفة الشيعية ان تكون المشكلة لانها وحدها ظلت تدافع عن سوريا. بدورها “انتفاضة الاستقلال” كانت تنقصها الطائفة الأكبر عدداً.

اما ما حدث الثلثاء فكان زواجاً بين عرابي التظاهرتين: بري، “حزب الله”، النائب سعد الحريري، جنبلاط. وقد ارسى ذلك التوازن السياسي الجديد الذي سيحكم لبنان في المرحلة المقبلة كون لقاء الافرقاء الاربعة على ادارة انتخابات رئاسة المجلس وتأييد بري في ظل شبه اجماع شيعي على عودته ابرز مقدرتهم على تأمين الغالبية الكبرى في مجلس النواب وهي 90 نائباً في حال استمر الزواج بين 8 آذار و14 آذار. غالبية كهذه كرّست بدورها شبه الاجماع السني وشبه الاجماع الشيعي وشبه الاجماع الدرزي.

اما شبه الاجماع المسيحي فكان في مكان آخر.

بيد ان نتائج جلسة المجلس الثلثاء ابرزت ايضاً:

- طي صفحة العداء المعلن لسوريا الذي قاد المعارضة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط، وحمّل على نحو غير مباشر دمشق مسؤولية الاغتيالات والتفجيرات التي تلته بالتزامن مع توجيه تهمة مباشرة الى رجال عهد الرئيس اميل لحود. وتالياً فان دمشق الذي خرج جيشها من الباب في 26 نيسان الفائت عادت من النافذة من خلال التوازن السياسي الجديد الذي نشأ من انتخابات رئاسة مجلس النواب.

وهو امر ينبغي الا يعني بالضرورة ان بري و“حزب الله” هما عرابا هواء العودة السورية. الا ان المؤكد انهما يكادان يكونان الحليفين الوحيدين لدمشق اللذين لم يتنصلا من علاقة التحالف معها اسوة بالآخرين، وكانا الحليفين الوحيدين لسوريا اللذين حققا انتصارا كاملاً في انتخابات 2005 وحفظا في لوائحهما الانتخابية في الجنوب والبقاع، وإن بمقاعد قليلة، من تبقى من الحلفاء العقائديين لدمشق كالحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث وحزب الكتائب. وما عناه بري في رده على النائب جبران تويني عن تمسكه بالعلاقات المميزة مع سوريا دليل اضافي. وهما الحليفان الوحيدان اللذان لم يُستهدفا ولا شهرا بعلاقاتهما بدمشق، بل اعتبرا، خلافاً للنائب السابق سليمان فرنجيه، حاجة ضرورية لاستكمال "انتفاضة الاستقلال" وانهاء عهد الوصاية السورية.

على ان الامر لا يقتصر على هذا فقط. اذ بعد خروج الجيش السوري واستخباراته العسكرية وانهيار معظم الطبقة السياسية التي لاذت بدمشق، يقتضي للخوض في “العلاقات المميزة” بين البلدين تعريف جديد لها لا يؤول الى حيث باتت عليه هذه العلاقات سياسياً وامنياً واقتصادياً واجتماعياً في ظل النفوذ السوري السابق في لبنان. وليس ثمة ما يؤكد ان المعارضة في الوقت الحاضر توافق بري على مفهومه للعلاقات المميزة مع سوريا، ولا بالتأكيد رئيس المجلس و“حزب الله” يوافقان المعارضة على التعامل مع هذه العلاقات مستقبلاً انطلاقاً من ان سوريا طُرِدت سياسياً من لبنان وأُخرِج جيشها بارادة دولية وهي تحمل الوزر السياسي على الاقل للحوادث الامنية منذ 14 شباط الفائت.

ومع ان الغموض يطبع تسرّب الهواء السوري الى لبنان، اذا كان لا بد من التسليم بما يقوله ديبلوماسيون اميركيون وفرنسيون في بيروت ان دمشق لم تخرج امنياً كلياً من هذا البلد، فواقع الامر ان التوازن السياسي الجديد سيكون في مواجهة مأزق اي سياسة خارجية للبنان في المرحلة المقبلة من دون ادارة سورية لها من جهة، وبعدما اعلن بري رفضه القرار 1559 وتمسكه بالمقاومة. وليست هذه في اي حال وجهة نظر السفيرين الاميركي والفرنسي في بيروت سواء باستعجالهما بدء الحوار اللبناني حول مصير سلاح “حزب الله” او بالحاحهما على التنفيذ الكامل للقرار 1559.

– لم تكن انتخابات رئاسة مجلس النواب الا نتيجة حتمية لتحالف الافرقاء الاربعة مذ خاضوا تجربتهم الاولى في هذا التحالف في انتخابات دائرة بعبدا- عاليه التي انتهت بانتصار كامل: زعامة جنبلاطية على ارض مسيحية - درزية باصوات شيعية وبمرجعية حريرية. وهذا ما ابرزه في اوقات متفاوتة اعلان الحزب والحريري وجنبلاط التزامهم اقتراعاً سياسياً لاستحقاق انتخابي، اكتمل بانتخاب بري رئيساً للمجلس.

وفي واقع الحال فان الافرقاء الاربعة اقتسموا الخريطة الانتخابية اللبنانية على نحو شبه كامل ما خلا الاختراق الذي احدثه الرئيس ميشال عون في المتن وكسروان - جبيل.

وبسبب هذا التقاسم اتى الاتفاق على بقاء بري رئيساً للمجلس بمعزل عن “الشركاء” المسيحيين، وتحديداً “لقاء قرنة شهوان” و“القوات اللبنانية” اللذين اختارا ان يخرجا الثلثاء الفائت للمرة الأولى عن غالبية الـ 72 صوتاً ليكونا في الموقع نفسه الذي كان قد قرره عون.

اذ اضحى بري و“حزب الله” من الثلثاء الشريكين الفعليين للحريري وجنبلاط في بناء السلطة الجديدة على انقاض تلك التي خبروها معا لعقد ونصف عقد من الزمن، ولكن في تاريخ جديد لا هو 8 آذار ولا هو 14 آذار، وقد اصبح هذان الرقمان على الارجح من الماضي بانتهاء انتخابات 2005 .

كان قانون 2000 هدية بري للمعارضة، فردّ 14 آذار بالاقتراع لـ 8 آذار.

مصادر
النهار (لبنان)