لجورج بوش خبران بشرَه بهما إحصاء اجرته جامعة يهودية في نيويورك «يشيفا يونيفرسيتي»، خبر جيد والآخر سيء. هنالك أغلبية كبيرة متحمسة لسياسته، هذا هو الخبر الجيد. أما الخبر السيء فهو ان هذه الغالبية موجودة في اسرائيل. ويورد هذا البحث اعتقاد غالبية اليهود في اسرائيل ان الحرب الأميركية على العراق جعلتهم اكثر أمناً، تقابلها نسبة 28 في المئة فقط من يهود اميركا تشعر الشعور نفسه. “واشنطن بوست 26 حزيران/ يونيو 2005”.

زفت هذه البشرى المشكوك بفائدتها بعد أن أكد استطلاع بعد الآخر تدهور حال سياسة بوش شعبيا. ففي استطلاع لشبكة سي. بي. أس ونيويورك تايمز تبين ان 42 في المئة من الاميركان راضون عن عمل بوش مقابل 51 في المئة بعد الانتخابات مباشرة. فقط 45 في المئة منهم يعتقدون الآن ان خطوة شن الحرب على العراق كانت صحيحة، في حين يعتقد 51 في المئة عكس ذلك. “نيويورك تايمز 17 حزيران 2005”.

نفس الارقام تقريبا مع وضد شن الحرب على العراق ولكن مقلوبة. وقد ازداد الموقف من شن الحرب حدة في استطلاعات أخيرة للشبكة المقابلة أي بي سي وواشنطن بوست. وهذا ما يهمنا وليس شعبية بوش بل سبب انخفاضها. وهو نفس السبب الذي جعل الاميركيين يتذكرون مؤخرا اكاذيب كلينتون حول علاقته مع المتدربة في البيت الابيض عندما قال عام 1998 خلافاً لكل الاثباتات والدلائل انه «لا علاقة تجمعه مع لوينسكي». عاد الكذب الى الأذهان بعد تصريحات نائب الرئيس الاميركي تشيني التي ناقضها العسكريون في شهادتهم امام لجنة الكونغرس “23 الشهر الجاري” من ان المقاومة العراقية المسلحة في حال احتضار. ودافع تشيني عن نفسه خلافاً لكل الدلائل والاثباتات في محطة سي.ان.ان مؤكدا أنه كان على حق عندما استخدم عبارة الاحتضار، أو النزع الأخير «لأن تعريف throes حسب القاموس لا تستثني بعض الانفعالات العنيفة». «عجبكم هيك؟» أعزائي القراء!. ولا بد انه سوف يهددنا، لو أكثرنا من الكلام، بأنه سوف يتذاكى أكثر.

لم تحصل هذه التداعيات حول الأكاذيب نتيجة لحساسية الجمهور الاميركي الفائقة للكذب. فقد صدق حتى الآن، عندما اراد ان يصدق، كل كذبة من ريغان الى جيسيكا لينش مرورا بأسلحة الدمار الشامل، ولا لمجرد ان السياسة الاميركية الحالية تراوح في مستنقع الولاية الثانية وهي ولاية بطيئة وكسولة ومأزومة وغالباً ما تنتصف فترتها بفضيحة: ووترغيت غيت، إيران غيت، لوينسكي كيت كيت. ولكن الأساس هو ما يجري في العراق. ولم يعد يهم المواطن الأميركي تحت اي عنوان يجري حسب القاموس، كما لم يهمه تمرير الكذب سابقا.

وقد احتدم النقاش في اميركا كما اشتد وقع الانفجارات قبل وبعد اجتماع حلفاء المصالح الجدد: صاحب فرقة البيسبول والكحولي السابق، المسيحي المتجدد مع طبيب العائلة العراقي العائد من اقامة طويلة في ايران، الذي يرغب ان يرى الاسلام مصدراً للتشريع في دستور العراق. وطبعاً عارض الجعفري اي تفكير بسحب القوات الاميركية من العراق قبل توفر شروط ثلاثة هي: جهوزية قوى الامن العراقية وحماية الحدود لمنع تسلل المقاتلين الاجانب وقوة السلطة القضائية...

يطالب اعضاء كونغرس من الحزبين الديموقراطي والجمهوري لأول مرة بوضع جدول زمني للانسحاب من العراق بعد تشرين الاول “اكتوبر” 2006 اي بعد الانتهاء من وضع دستور العراق والتصويت عليه واجراء الانتخابات الجديدة بموجبه في نهاية ذلك العام حسب الجدول المحدد. لكن بوش يرفض الالتزام بأي جدول زمني: «لن تكون هنالك جداول زمنية، لماذا عليك ان تقول للعدو هذا جدول مواعيدي ولذلك امض قدماً حتى نخرج؟». والمواطن الاميركي يعتبر مثل هذا القول محقا من وجهة نظر الوطنية الأميركية المشتركة. وهذا ما يتبين من احصائيات الثلثاء في 28 حزيران لأي بي سي وواشنطن بوست، الغالبية تشكك بتقارير الادارة عما يجري في العراق، وتتهمها بالكذب والتزوير لغرض شن الحرب، وفي الوقت ذاته فقط واحد من ثمانية يعتقد ان الانسحاب الفوري ممكن، وغالبية تؤكد ان الانسحاب قبل ترتيب الأوضاع هناك بعد عدة سنوات غير ممكن. ولكن الرؤية المشتركة للمصلحة الوطنية بين المواطن والدولة اهتزت مؤخرا مما يتيح مجالا للسياسة الانتهازية الديموقراطية ان تطرح أفكارا من هذا النوع لا تتناسب مع منطق الحرب او الانتصار في معركة.

ويرفض بوش التعليق على انحسار شعبية سياسته بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص. فهو يرى ان من يلاحق استطلاعات الرأي العام مثل «كلب يتبع ذنبه...وظيفتي ان اضع الأجندة». “نيويورك تايمز، 25 حزيران 2005”. وهذا كلام صحيح في الظروف العادية، وكنا سنعجب به لو قاله سياسي من طرف معارضة الحرب، وكنا سنتهكم على نتائج الاستطلاعات. فهي التي فوتت على باراك التسوية مع سورية، إذ قادته بدل ان يقود الجمهور. وهكذا كان على كيري أن يتكلم إبان الحملة الانتخابية لو أن لديه عمودا فقريا. ولكن مشكلة بوش أن أجندته نفسها باتت هي المشكلة وذلك بسبب تعثرها وليس بسبب حساسية الجمهور الاميركي للاستطلاع.

الاستطلاع ليس القضية. بل انقسام التيار المركزي حول الحرب. والجديد في الامر ان قضايا كانت تناقش خارج صحافة التيار المركزي وخارج المؤسسة وخارج الحزب الجمهوري اصبحت تناقش هنالك ايضاً. ولنقرأ كلمة التحرير في نفس عدد النيويورك تايمز :«الحرب لم تجعل العالم او هذه الأمة اكثر اماناً ضد الارهاب (...) واتهام كل من يناقش الحرب بأنه اكثر ليونة في التعامل مع الارهاب هو إقصاء لأي نقاش جدي»، والمقصود ان العودة الى موضوع الارهاب ضد ناقدي الحرب حاليا هو ديماغوجيا، إذ لا دخل لها بـ«الحرب على الإرهاب» بل هي اضافت له وطنا جديدا. لكن هذا بالضبط ما فعله كارل روف، مدير شؤون كل شيء عند بوش، في محاضرة امام الحزب المحافظ “يوم الخميس، 23 حزيران” في نيويورك: ان «الليبراليين بعد هجمات يوم 11 ايلول جهزوا الادانات ومعها العلاج والتفهم لمنفذي الهجمات» “واشنطن بوست 26 حزيران 2005”. تحرك الكونغرس واروقة المؤسسة الامـيركية دوامة نقاش على خلفية الحرب على العراق. فقد اقتحم فجأة موضوع غوانتانامو كل زاوية معقمة الى درجة النقاش الحاد في اوساط نقابات الاخصائيين والاطباء النفسيين حول دورهم في مساعدة المحققين في استغلال قلق ومخاوف السجناء ووصل في الاسبوع الثاني من حزيران الى مجلات اخصائية مثل «نيو انغلند جورنال اوف مديسين». وحول كارل روف الأضواء لمصلحة الديموقراطيين عن عضو حزبهم السيناتور ريتشارد ديربن الذي اعتذر يوم 21/6 من على منصة الكونغرس عما قاله في اسبوع سابق من ان ممارسات اميركا في غوانتانامو تشبه ممارسات النازية.

ودافع البيت الابيض عن تصريح روف واعتبره مناسباً. وهاجم الجمهوريون الديموقراطيين على احتجاجهم عليه باعتباره موجهاً ضد الليبراليين، وانزعاجهم هو اعتراف ضمني لأنهم ليبراليون، وبذلك تأكيد على ان كلمة ليبراليين ما زالت شتيمة “the L-word” في عرف العاصمة الاميركية.

لم يؤد ارتفاع منسوب الليبرالية ولا ازدياد الحساسية للتعذيب خارج منظمات حقوق الإنسان الى احتدام النقاش، بل اشتداد هجمات المقاومة العراقية على انواعها ضد الاميركان وازدياد عدد الضحايا الاميركان بشكل ملحوظ. وينشأ قلق فعلي من تطور قدرة المقاومة العراقية وازدياد خبرتها. وقد هز مقتل 6 مجندات اميركيات في تفجير في الفلوجة الرأي العام في واشنطن. ربما لأنهن مجندات، ولأنها الفلوجة التي اجتيحت واحتلت ومشطت وحوصرت... فأين تقع العملية التي تتم قبل ساعات من اجتماع الجعفري مع بوش؟ في الفلوجة. ويزداد عدد العراقيين الذين يقتلون من يوم لآخر، ولكن الانتباه اليهم في اميركا يأتي بسبب الاهتمام بالضحايا الاميركان كظاهرة مرافقة للاهتمام بالآخرين ذات علاقة باللياقة السياسية. ولكن الاساس يبقى القلق الاميركي أولا من ازدياد الضحايا، وثانيا من ارتباك الحجة الوحيدة المتبقية: النموذج العراقي في الانتقال للديموقراطية.

ولنبق بداية مع الاعتبار الاول. من كل تراشق السياسيين والبرلمانيين للاتهامات لفت نظري مقال ديفيد كلو “نيويورك تايمز 22 حزيران” حول ازدياد تعقيد وتركيب المتفجرات في العراق. فالمسألة من منظوره ليست فقط مسألة عدد التفجيرات، بل ان هذه التفجيرات اصبحت اقدر على اختراق المدرعات وذلك بتركيز الانفجار في ما يشبه حركة الانفجار الصاروخي. يضاف اليه ادخال التحكم بالمتفجرات عن بعد بواسطة الاشعة تحت الحمراء وليس الكترونياً، لأنه يسهل التشويش على الوسائل الالكترونية. وهذا يعني تورط خبراء في الجيش العراقي السابق مباشرة في الاعداد للعمليات “صح النوم!!”.

في ايار وقع 700 هجوم بمتفجرات معدة يدوياً ضد القوات الاميركية “وهذا اعلى رقم منذ الاجتياح عام 2003”، لكن ما يقلق البنتاغون هو التطور الذي طرأ على صناعة المتفجرات الى درجة ان يعقد الجيش مؤتمراً في قاعدة فورت ارفين في صحراء كليفورنيا.

اما تعثر بناء الديموقراطية فتجسد في عدم الاتفاق على دستور في العراق إضافة الى طائفية الدولة الجديدة وازدياد تدخل المليشيات في الحفاظ على الامن بدل القوات النظامية والتسليم الاميركي بذلك. وتتفجر مناقشة مسألة الفساد المالي في النظام العراقي الجديد خاصة إبان حكومة اياد علاوي، ما يثير القلق من عدم القدرة على تجنيد اموال بعد تناقص الجنود من الحلفاء في المستقبل. والتقارير التي تنشرها الصحف الاميركية في نفس الاسبوع عن الفساد في دولة العراق الجديدة تشمل التساؤل حول أموال «اعادة بناء العراق»، ومشاريع وهمية قُبض مقابلها ولم تنفذ، هذا اضافة الى بيع وتأجير عقارات واملاك دولة باسعار رمزية، وفساد في البلديات وفساد في مجال الصحة وبناء المستشفيات. وما يثير حفيظة حتى المعتاد على الفساد أو القراءة عنه في العالم الثالث والعالم العربي بشكل خاص انه تم تأجير مستشفى في مدينة الكوت لشركة خاصة مقابل 1000 دينار عراقي اي 70 سنتاً في العام، والحديث هو عن مستشفى !!“نيويورك تايمز 24 حزيران 2005”.

لو حقق الاجتياح الاميركي للعراق نصرا ساحقاً ناعماً دون ضحايا وتفجيرات لما التفت الى الفساد الا بعض الجديين، ولما أعار أحد مدى تطبيق الديموقراطية وإعادة البناء في العراق اهتمامه. ولكن الاحتلال يتعثر في كل زقاق وخلف كل منعطف، وسبق له ان اعترف باكاذيبه الكبرى المتعلقة بالحرب، ولم يبق غير نشر الديموقراطية حجة. وربما هذا ما دفع رايس الى «الاعتراف» في محاضرتها في الجامعة الاميركية في القاهرة بتفضيل اميركا الاستقرار على الديموقراطية، ما اثار حماسة البعض كأنه تصريح جديد، في حين ان جهلهم هو القديم. فماذا ينقص حالياً؟ ينقص امران. معارضة اميركية فعلية تتجاوز دفاع الديموقراطيين عن ذاتهم وعن وطنيتهم الاميركية امام هجمات امثال كارل روف، وتتجاوز تنصلهم من «تهمة» الليبرالية. لقد فوت الديموقراطيون فرصة حاسمة في الانتخابات الاميركية للتركيز على الاساس امام ديماغوجيا اليمين والمحافظين، فبدا موقفهم على انه متوافق مع بوش بتحفظ، اي أنه عبارة عن تردد امام موقف الجمهوريين الذي يبدو اكثر وطنية في الازمات.

وينقص من الناحية الاخرى موقف عربي بالذات في المرحلة التي يبدو فيها واضحاً ان العراق دولة غير معتدية بل معتدى عليها، وانه يقاوم بشكل مقلق للمؤسسة الاميركية وليس للرأي العام الاميركي فحسب. في هذا الوقت بالذات ينشغل العرب بالنجاة كل بعنقه وبتحليل خطاب رايس وغيرها.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)