أبدأ بمسلمتين ترتقيان عندي إلى درجة البداهة التي لا ينبغي لأي سياسي أو حقوقي أن يتساهل فيهما. الأولى: ضرورة إلغاء القانون 49 للعام 1980؛ والثانية ضرورة أن يشمل الحوار الوطني الجميع. فالقانون 49 قانون باطل لأنه غير شرعي، فهو يخالف الدستور السوري والشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي ومعظم دساتير الدول في العالم. وهو قانون غير عادل لأنه لا يحاكم على الأعمال ولكن على الأفكار، ويحكم بالعقوبة القصوى التي ينبغي بالدرجة الأولى إعادة التفكير فيها من حيث الأساس إذا ما أرادت سورية الانضمام إلى ركب الحضارة العالمي. ومن هنا فإن إعلان إلغاء القانون المذكور هو أمر بديهي ومطلب يجب أن يتبنّاه جميع دعاة حقوق الإنسان في سورية والعالم.

أما الحوار الوطني فلا يمكن أن يكون حكراً على أحد، ولا يمكن أن يستثني أي تنظيم سياسي أو مجموعة بسبب انتمائها الديني أو القومي.

بيد أن هذا كله شيء، والتصور أن الإخوان المسلمين قد تحولوا إلى تنظيم ديموقراطي يمكن للمعارضة العلمانية- الديموقراطية التعامل معه شيء آخر. وليس التهافت على مديح (التغيير الديموقراطي) الذي أجراه الإخوان المسلمون في سورية، في برنامجهم السياسي الجديد الصادر في العام الفائت، سوى إسقاط للتمنيات على الواقع. وهو تهافت إن دل على شيء فعلى مدى ضعف الطيف المعارض السوري وتفككه وحاجته المستمرة إلى متكأ من خارج برنامجه يستند إليه في عمله السياسي.

يرى بعض المتحمسين للمشروع الإخواني أن جماعة الإخوان المسلمين في سورية قد قررت تبديل جلدها، وتحولت إلى تنظيم ديموقراطي، وأنها «تخلت عن عديد من منطلقات مرجعيتها السابقة، وأكدت أنها تريد العمل بالتعاون مع الجميع لبناء دولة مدنية مرجعيتها بشرية، دولة لجميع مواطنيها مهما كانت أديانهم ومذاهبهم وإثنياتهم، وأن تكون هذه الدولة تعاقدية وتمثيلية وتعددية وتداولية ومؤسستية وقانونية». وهم يرون أن المراجعة النقدية التي قام بها الإخوان المسلمون «ليست شكلية أو سطحية، بل يصح اعتبارها تحولاً نوعياً طاول معظم مستويات العمل السياسي أهدافاً وآليات ووسائل».

شخصياً قرأت مشروع الإخوان أكثر من مرة، وحاولت أن أعثر على المكان الذي يؤكد صحة الوهم السابق ففشلت. فالجماعة وإن كانت عدلت الكثير من خطابها السياسي وأسلوب عملها، إلا أنها ظلت أمينة لمنطلقاتها النظرية القائمة على الاستناد إلى الخطاب الديني والنص المقدس في مواجهة البشري والإنساني.

ولئن استطاع الإخوان تزويق خطابهم بحديث عن التعددية وتداول السلطة وصناديق الانتخاب، فإنهم لم يخفوا أن ذلك كله مؤسس على نقطتين اثنتين هما: الحاكمية لله والمال لله. فمن الناحية التشريعية، تقرر الوثيقة أن “الله سبحانه وتعالى قصر الحكم عليه وحده” وهي بذلك تقصر كل التشريعات البشرية على اجتهادات يمكن للمسلمين القيام بها فقط من خلال تلك الأحكام بواسطة “الاجتهاد من خلالها والبناء عليها”.
والدولة التي يسعون إلى الوصول إليها هي «دولة ذات مرجعية تنبثق من هوية الأمة العربية الإسلامية وثوابتها». وكل جهد ثقافي أو اجتماعي أو سياسي ينبغي أن “لا يتعارض مع قواطع شرع الله”. والغاية الأخيرة هي «نقل الناس إلى الانضواء من جديد تحت لواء الإسلام في تنظيمه الشامل لحياة الناس»، بيد أن ذلك (يقتضي التدرج في التطبيق.

أما القاعدة الرئيسية الثانية فهي أن المال لله. ومن هنا يرى المشروع إن «لملكية المطلقة هي هنا لله تعالى وحده، كما كانت الحاكمية المطلقة هناك لله تعالى وحده. وفي ظل هذه الملكية المطلقة» يستخلف الإنسان ليتصرف في هذا المال حفظاً وتنمية وإنفاقاً. وحقيقة أن المال مال الله وأن الإنسان ما هو إلا مستخلف فيه، تفتح في المجال أمام تأويلات متعددة (تفتح الآفاق أمام التشريعات الاقتصادية في حالات النوازل والجوائح، ليرجع ما للفرد على المجموع). أما من يعرف النوازل والجوائح ومن يحدد الفرد والمجموع، فلم يكلف المشروع نفسه عبء شرحه وتفسيره، رغم أنه فصّل إلى حد الإملال في جزئيات عقيدية أخرى كان بالإمكان اختصارها.
وللوصول إلى ذلك لا بد من “أسلمة القوانين تدريجياً”، وذلك لأن “الشريعة المنزلة من عند الله رحمة للعالمين أرفق وأحكم وأرعى لمصلحة الناس أجمعين”. لا يمكن أن يكون ثمة أكثر من ذلك وضوحاً. فما إن يتم أسلمة القوانين، حتى يصبح كل حديث عن التعددية وتداول السلطة نسياً منسياً، ويرجع القول مرة أخرى إلى الجماعة التي ترى «أن الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة، وتشمل تشريعاته كل الجوانب الروحية والثقافية والاقتصادية والسياسية».

ويظل الحكم من وجهة نظر الجماعة للأغلبية: ولكن أية أغلبية؟ الأغلبية الدينية-الطائفية اللاديموقراطية. ذلك أن الديموقراطية تعني أن الأغلبية في المجتمعات الديموقراطية ليست حكم الأغلبية الدينية أو العرقية أو الطائفية، وإنما حكم الأغلبية السياسية التي يمكن أن تخسر موقعها في الانتخابات لتتحول إلى أقلية وتفسح في المجال أمام أغلبية جديدة كانت حتى الأمس أقلية.

وأكثر من ذلك، فإن الديموقراطية تعني أولاً واجب الأغلبية العددية حماية حقوق الأقلية العددية السياسية والثقافية والحضارية. ومن هنا أتساءل عما إذا كان قراء “المشروع الحضاري” للإخوان المسلمين قد انتبهوا إلى أن البرنامج، الذي يقر بحق جميع السوريين بالتصويت والترشيح، قد حصر المناصب السياسية العليا كرئاسة الجمهورية والبرلمان والحكومة بالمسلمين، إذ يقرر أن “دين الدولة هو الإسلام”. وهو بذلك يقرر استبعاد كل المسيحيين واليهود والصابئة واليزيديين، بل هو يستبعد أيضاً كل العلمانيين غير المتدينين الذين يضعون ولاءهم للوطن وليس لدين بعينه أو طائفة بعينها.

إلى ذلك، يتجاهل المشروع ذكر القوميات غير العربية في سورية، ما عدا تكراره لمقولة المكونات الثقافية للمجتمع السوري، ومقولته الثانية التي ترددت كثيراً حول المساواة بين جميع المواطنين في الدستور وأمام القانون. بيد أن تينك المقولتين تفقدان كل معنى لهما عندما يقرر البرنامج أن الإسلام «عقيدة وشريعة للمسلم الملتزم، كما هو هوية حضارية عامة لغيره»، مستنتجاً أن هوية المجتمع السوري هي “هوية عربية إسلامية”؟

أما على صعيد المرأة، فالمشروع يقرّ أن «البيت هو الميدان الأساس لعمل المرأة، ولا نرى في تفرغ المرأة لبيتها وأولادها تعطيلاً للجهد واستغناء عن نصف المجتمع , وإنما نرى فيه نوعاً من التخصص في توزيع العبء». ومع ذلك يتجاهل بعض المتحمسين للمشروع، وهم من العلمانيين المتحررين، الوصف المنحاز الذي يقدمه المشروع للمؤتمرات الدولية حول المرأة، حين يقرر أنها «تسعى حثيثاً لهدم الأسرة وتعويم العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة، وتدعو إلى أشكال من العلاقات الإنسانية المبتذلة، تحت شعارات الحرية الفردية التي قادت الغرب إلى حالة من الانحلال الاجتماعي والفوضى والإباحية، ونشوء جيل كامل من الأبناء الناقصي الإنسانية، المجهولي النسب».

بعد ذلك يبقى حديث البرنامج عن حق «المرأة في العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات النيابية والمحلية والنقابات، وحقها في عضوية تلك المجالس وتولي المناصب العامة» بلا أساس فعلي يستند إليه.

كيف يمكن لخطاب سياسي كالذي بين أيدينا أن يشتت أبصار نقاده عن رؤية الأساس الديني الأصولي الذي يكمن وراءه؟ هناك إجابتان: الأولى أن الجماعة أصدرت رؤيتها البرنامجية في نسختين، كاملة وموجزة. وهي ثبتت كل أفكارها الأصولية في نسختها الكاملة وأبقت على العبارات التزيينية البراقة في الموجز. وظني أن العديد من المتحمسين للمشروع إنما قرؤوا الموجز، واكتفوا به. أما الإجابة الثانية، فهي في الضعف المتأصل بصفوف المعارضة السورية العلمانية التي تجعلها تتشبث، كما يقول المثل السوري، بحبال العرمط. وحبال العرمط هذه المرة جاءت من جماعة الإخوان المسلمين ذاتها.
عن جريدة النور