عندما تعلن الادارة الاميركية بلسان سيد البيت الابيض وبألسنة رسمية اخرى انها تريد إعمام فضائلها «الديمقراطية» لتشمل بلداننا العربية والاسلامية كافة‚ وتحاول تسويق الوضع الحالي في العراق كنموذج للديمقراطية التي انجزتها العبقرية الاميركية بالغزو والاحتلال العسكريين‚ وتعد العرب والمسلمين التواقين الى الحرية والعدالة الاجتماعية بأن يتذوقوا الكأس التي يتجرعها العراقيون منذ 9/4/2003.

ابتهاجا بحقهم «الانساني» في الاوبئة والجوع والظمأ والموت عبثا والخراب والتدمير والفوضى الخلاقة الدامية والخنوع والذل المقنعين بالصبر البشع‚ والوقاحة والفجور السياسيين و«التعددية الوطنية» والتنابذ العرقي والتحاصص السياسي الطائفي والتراشق بالدم والدموع واللهب في كرنفال الخيانات المتواصل‚ الى غير ذلك من مباهج الاحتلال وحسناته وحسينياته‚ وفي الوقت نفسه تتهم الألسنة الاميركية نفسها سوريا بأنها تحاول التشويش على المشهد العراقي الوردي وتهدده بالذبول‚ لماذا؟

«تحرير» البلاد من العباد؟!

إن سوريا متهمة صهيو اميركيا‚ وصهيو أوروبيا لأنها تصر على عد الاحتلال احتلالا ولا تتفهم انه ضرب من ضروب «تحرير» الارض من سكانها الاصليين كما قررت عصابات اليانكي «الولايات المتحدة الاميركية» من الهنود الحمر قبل اكثر من خمسة قرون‚ وحررت عصابات الهاغاناه وأخواتها «اسرائيل» من الفلسطينيين في العقود الاوائل من القرن المنصرم‚ ولأن دمشق لم تتفهم ايضا «الواجب الالهي» الذي اختار «يهو» الرئيس الاميركي وحوارييه لتنفيذه‚ اعني واجب مساعدة الشعوب على «التحرر» من قادتهم الذين تم انتخابهم خطأ‚ لأن كل انتخابات ديمقراطية تجري دون التنبه الى ان نتائجها يجب ان تتطابق مع المواصفات الصهيو اميركية كي تعد انتخابات نزيهة‚ وعلى العكس من ذلك فان دمشق تصر على عد مساعدة شعب التشيلي في «التحرر» من الرئيس سلفادور أليندي بزخة رصاص سربلت الرئيس أليندي بدمه وتوقف قلب صديقه الشاعر بابلو نيرودا عن الخفقان تأثرا‚ ومساعدة الشعب الفلسطيني على «التحرر» من الرئيس ياسر عرفات بجرعة سم‚ تدخلا في الشؤون الداخلية التشيلية والفلسطينية على سبيل المثال لا الحصر‚ ولا ضرورة هنا للتذكير المجاني بأن فلسطينيي تشيلي كانوا الاكثر حماسة لاطاحة أليندي وبأن نيرودا وعرفات يحملان جائزة نوبل للآداب والسلام !

المهم ان «المروءة» الاميركية تجاوز في القرن الماضي والحالي مثالي «نصرة» الفلسطينيين والتشيليين في الخلاص من قادتهم الوطنيين لتتواصل المحاولات «النبيلة» من فنزويلا الى لبنان وسوريا ومن كوبا الى ايران وروسيا‚ وبالمقابل فقد بات جليا ان سوريا أمعنت في عدم تفهم المشروع الاميركي الانساني لدرجة اعتزام واشنطن ادراج دمشق على قائمة العواصم الشريرة بعد ان تجشمت عناء ازاحة بغداد عن هذه القائمة بارسال الطائرات والدبابات ومئات الآلاف من «المارينز» الذين يسفكون دمهم طواعية ويمزجونه بدماء الشعوب المستهدفة قرابين في معبد «التحرير» و«الدمقرطة» العولمي لتسقط عاصمة العباسيين بكل امتنان في مشروع واشنطن الخيري الشرق أوسطي !

دمشق تواصل حلمها القومي !

ولم تعتبر عاصمة الامويين فتقتسم مع بغداد كابوسا اميركيا طويلا‚ فواصلت حلمها الوطني القومي‚ وهددت بمواصلة عد هضبة الجولان محتلة وباضرام نيران المقاومة تحت المحتلين بعد ان سدوا آذانهم ازاء دعوات السلام التي اطلقها الرئيس بشار الاسد بمفرده أو مع نظرائه القادة العرب في قمتي بيروت والجزائر خاصة.

وكي تحرم العراقيين من التنعم بما يغدقه الاحتلال عليهم من جوع وعطش غمرتهم جُلَّق بكامل حصتها من نهر الفرات وبما يختزنه سد الفرات الذي بناه الرئيس الراحل حافظ الاسد فقط كي يحرم «عمر اميرلاي» مثلا من ذكريات بيت العشيرة الطيني الذي غمرته مياه السد‚ قبل ان يلتحق «اميرلاي» ببلاط «قريطم» وينغمر بأمواج «البترودولار» وتموجاته‚ فيستنشق رائحة النقود وينتشي بملمسها الحريري !

بل ولعل اخطر ما اقدمت عليه سوريا بقيادة الرئيس بشار الاسد‚ هو ذلك المؤتمر القُطري العاشر‚ ليس لأنه تحدى المكارثية الاميركية الجديدة ضد كل ما هو «بعثي»‚ بل لأن هذا المؤتمر «البعثي» أرسى اسس نموذج ديمقراطي عربي ــ سوري‚ يؤكد تمسك سوريا بهويتها العربية الاسلامية ورفضها المطلق للاحتلال الاجنبي وتداعياته‚ وفي الوقت نفسه عزمها البدء فورا باستئناف تنفيذ البرنامج الاصلاحي الذي اعلن عنه الرئيس الشاب بشار الاسد في خطاب القسم التاريخي.

وعلى قائمة أولويات البرنامج قيد التنفيذ محاربة الفساد وبالمناسبة صرح «برلمان» عراقي قبل ايام على قناة فضائية ان الفساد في العراق تفاقم بعد الاحتلال وتجاوز ضرره ما كان عليه في نظام صدام حسين اضعافا مضاعفة !‚ والفساد الذي يحاربه السوريون الآن يشمل كل أوجه الحياة في المجتمع والدولة‚ والذي يصبو الرئيس الاسد الى تحقيقه بتنفيذ برنامج التطوير والتحديث هو تأمين الحياة الطويلة والكريمة للمواطن بمقاومة الفقر والبطالة والجوع والمرض‚ وبتأمين السكن والغذاء والدواء والكساء والعمل لكل مواطن‚ وبانعاش الاقتصاد الوطني وتطوير وتحديث القطاع العام وخدماته التي لا غنى عنها وبالانفتاح على اقتصاد السوق العالمي باعتماد اقتصاد سوق اجتماعي اي يأخذ في الحسبان التداعيات الاجتماعية للانخراط في اقتصاد السوق ويعزز روابط المغتربين مع وطنهم بجسور واسعة ومتينة ليستثمروا أموالهم فيها ويزيدوا جمالها جمالا‚ ومن خلال المضي بخطى واثقة وواسعة نحو حياة تعددية ديمقراطية سياسيا واعلاميا واقتصاديا واجتماعيا وتحويل السجون الى مدارس لاعادة تأهيل الجانحين وادماجهم في المجتمع الذي لن يقبل في صفوفه دعاة تفرقة دينية او طائفية وانقساما عرقيا أو استقواء بالاجنبي تحت اي ذريعة أو شعار‚

ازاء هذه المعطيات تفقد الادارة الاميركية اعصابها‚ وتلقي التهم جزافا ضد سوريا في محاولات منها للتشويش على المعطيات الواقعية التي حاولنا رسم بعض ملامحها آنفا.

الأميركي الأكثر غباء !

وإذا كان الوصف الروسي دقيقا حين ينعت الرئيس جورج دبليو بوش بأنه اغبى اميركي داخل الولايات المتحدة الاميركية «والعهدة على مختلف وسائل الاعلام العولمية» لأنه ما فتئ يتحدث عن انجازاته الديمقراطية في العراق وأفغانستان‚ رغم تقديم القنوات الفضائية من الاخبار والتحقيقات المصورة ما يمثل وسائل الايضاح التي تشرح بأشلاء الجثث واحشاء الآليات وأنقاض الابنية تفاصيل الديمقراطية البوشية في العراق خاصة‚ فاننا يجب ان نبحث عن مفردة أدق لنعت أولئك الذين يرددون عبر وسائل الاعلام العربية اكاذيب بوش الوقحة بخصوص الديمقراطية المزعومة في العراق‚ وتخرصاته ازاء اتهام سوريا وتهديداته المتواترة والصفيقة لها‚

أما أولئك المحسوبون على الشعب السوري من افراد ارتضوا لأنفسهم الانخراط في الجوقة الاعلامية الاميركية‚ بعضهم يقبض وبعضهم ينتظر‚ فان قول رجل الدين المسيحي حين أتاه خبر ارتداد ابن كنيسته «حنون» عن دينه واعتناق الاسلام (ما زاد حنون في الاسلام خردلة ولا النصارى لهم شغل بحنون)‚ لا ينطبق على الذين يراهنون على التغيير بالدبابة الاميركية او الفرنسية او الاسرائيلية‚ لأنهم في حسابات البيدر السوري اقل شأنا من «حنون» !

المهم الآن ان سوريا ببناء تجربة ديمقراطية على خلفية التمسك بالثوابت الوطنية والقومية ترفع امام العالم بأسره‚ وامام شعوب منطقة الشرق الاوسط خاصة نموذجا للديمقراطية الوطنية يكون رافعا نضاليا لمقاومة النموذج الاميركي لديمقراطية سجن ابو غريب وغوانتانامو‚ وبذلك تمتلك سوريا أحقية الحضور الراسخ والمشع في مستقبل المنطقة والعالم‚

وكي لا نقع في مستنقع رفع الشعارات الكاذبة كما هو حال الولايات المتحدة ورهوطها الدوليين والمحليين منذ استعدوا لغزو العراق واحتلاله‚ نؤكد ان التجربة الديمقراطية الفتية في سوريا والتي يطلق عليها في دمشق تجربة التطوير والتحديث تستحق ان نرعاها ليس بالتطبيل والتزمير الاعلامي الديماغوجي‚ بل بمواجهة الحملة الاعلامية الاميركية ــ الصهيونية التي تستهدف هذه التجربة الواعدة‚ خصوصا أن البديل المطروح هو النموذج العراقي الذي لا يقبل غيور على وطنه تمثله حتى نكاية بنظام لا يلبي طموحاته لكنه على الاقل لم يسلم العباد والبلاد الى الاجنبي يتصرف بها وفق مصالحه الاجنبية‚ فما بالك وأن رأس النظام في سوريا نفسه يقود تجربة الاصلاح والتغيير الديمقراطية الهادفة الى تطوير سوريا وتحديثها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا واعلاميا وثقافيا واداريا وقضائيا‚ فهل نلتف حول ربان التجربة لانقاذها من عواصف السياسة الدولية والاقليمية ورياحها الصهيو ــ اميركية الخبيثة‚ أم نيأس من التجربة سلفا ونتذرع بعدم اكتمالها بسرعة كي نشكك سلفا في جدواها؟ هذا ان نندفع مذرعورين كالجرذان نقضم قاع السفينة بحثا عن مهرب لنا ومسرب للاخطار الخارجية الى كياننا الوطني؟!

هل نراهن على تجربة وطنية يقول لنا قائدها بالتفصيل الممل من أين تنطلق وكيف والى اين؟ وما هي المصاعب والعوائق على طريق نجاحها؟ وكيف نزيل هذه العوائق ونتغلب على تلك المصاعب؟ أم نرهن حاضر وطننا ومستقبله لمقامرين خائبين يجاهرون بفجور أنهم يريدون ربط مصائرنا بعجلة المصالح الصهيو ــ اميركية ؟!

مصادر
الوطن (قطر)