كيف يمكن المرء ان يتصدى لتقطع الحياة وتوزعها ووحشيتها؟ وكيف يستطيع ان يقيم تواصلاً بين ما آلت اليه حاله مع مرور الزمن وذلك الماضي المدفون في طيات النسيان؟ هذا ما يحاول أهرون أبلفاد البحث عنه قي كتابه الاخير: “حكاية حياة” الذي يصر على أنه ليس سيرة ذاتية بقدر ما هو استعادة لمحطات عيش متفرقة ومتناثرة وسيلتها الذاكرة والمخيلة اللتين يعتبرهما مكملتين لبعضهما البعض.

يرفض أبلفاد تعريفه بكاتب لتجربة الإبادة النازية رغم كونه أحد الناجين منها وبسببها فقد أمه التي قتلت عندما كان في الثامنة من عمره. كونه يهودياً من رومانيا كلفه كثيراً وأفقده طفولته. افترق عن والده اثناء عملية ابعاد اليهود عن رومانيا الى معسكر الإعتقال في أوكرانيا ولم يلتقه مجدداً الا بعد مرور 20 سنة. هرب من الغيتو وعاش حياة تشرد متنقلاً من مكان الى آخر مخبّئاً هويته اليهودية.

تنقل بين اوكرانيا ورومانيا ويوغوسلافيا وبلغاريا وروسيا وايطاليا .وفي هذه الاثناء أتقن عددا من اللغات الى جانب لغته الأم الالمانية مثل الييديش لغة جدته وجده «وهي مزيج من الالمانية والعبرية القديمة يتحدث بها حتى الان عدد من يهود أوروبا الوسطى ولها تراث كبير في الفقه والأدب» والاوكرانية والرومانية والروسية وبعض الايطالية، ولكن اللغة العبرية لم يتعلمها قبل وصوله الى اسرائيل عام 1946 أي عندما كان مراهقا في الرابعة عشرة من عمره. يصف الكاتب ضياعه بين لغاته المختلفة واللغة الجديدة والغريبة التي عليه منذ الآن فصاعداً التعبير من خلالها: «من دون لغة، العالم ليس الا فوضى واضطراباً ومخاوف لااساس لها. معظم الاطفال حولي كانوا يتلعثمون ويتنقلون بين اربع لغات تعيش في داخلنا في انسجام غريب وتكامل ،ولكن من دون لغة أم الانسان يكون معاقاً».

الدافع الرئيس الذي حدا بأبلفاد الى تسطير كتابه «تاريخ حياة"() هو الرغبة الجامحة لتحدي النسيان والالم وللحديث مجدداً عن ذكريات سنوات الحرب عندما كان طفلاً. يقول: "لقد مر أكثر من خمسين سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية. القلب نسي الكثير بصورة خاصة الاماكن والتواريخ واسماء الاشخاص، ولكني ما زلت أذكر ذلك النهار بكل قواي، وفي كل مرة تمطر أو، يشتد البرد او ينفخ فيها الهواء بقوة أشعر أني من جديد صرت داخل الغيتو في المعسكر او في الغابات التي احتميت بها لوقت طويل. يبدو ان للذاكرة جذورا قوية متجذرة في الجسد، وتكفي أحياناً رائحة القش العفنة او تغريدة عصفور كي تحملني بعيداً الى ذلك الداخل، أقول الداخل لأني لم اجد كلمات لتلك البقع القوية من الذكريات».

ربما اكثر ما يجعل عملية التذكر التي يرويها الكاتب مؤثرة انها رواية بعيني طفل خائف مذعور يقاتل بأسنانه من أجل البقاء،انها رواية عن أطفال هذه الحرب الذين بعد انتهائها حاولوا ان ينسوها.

ماذا صنعت الحرب؟

يتحدث الكاتب عما صنعته الحرب بالإنسان. يقول: «الحرب تدفع الى الصمت. فالجوع والخوف من الموت يجعلان الكلمات بلا فائدة، في الغيتو والمعسكرات وحدهم المجانين يتحدثون، اصحاء العقل لا يتكلمون». والحرب كشف للطبيعة البشرية فهي«تفضح ليس شخصية المرء وانما الجهة المظلمة للإنسان. فالأنانيون والاشرار لم يتركوا اثراً في نفسي غير الخوف والاشمئزاز، أما الكرماء فقد أمدوني بدفئهم وكرمهم… الحرب مفعمة بالألم والحزن العميق باليأس وبالاحاسيس المعذبة التي تفرض لغة واضحة ولكن كلما كان الالم كبيراً واليأس عميقاً كلما بدت الكلمات من دون طائل»وأمام المصائب الكبيرة تعجز الكلمات التي تبدو«فقيرة وبائسة وزائفة. حتى الصلوات تعجز عن مواجهة المآسي الكبرى». الانسان يحاول احاطة المآسي الكبيرة بالكلمات ليحمي نفسه، أما الكاتب فكان مسعاه هو البحث عن ذلك الصمت الذي احاط به خلال الحرب، ومن خلاله العودة الى ذلك الزمن واسترجاعه من جديد واخراج تلك الذكرى الحارقة. يقول: "عن الحرب العالمية الثانية الناس تكتب شهادات تعتبر التعبير الصادق عن الحقيقة. اما انا لم تكن لدي شهادات اعرضها فأنا لا اتذكر اسماء الناس والاماكن ولكن أذكر تلك العتمة والضجة والاشارات. ولم ادرك الا متأخرا ان هذه تشكل المادة الاولى وعصب الادب الذي من خلاله يمكن منح الرواية الفردية شكلها".

ولادة كاتب

لم يكن سهلاً على أهرون أبلفاد ان يتحول الى صهيوني حقيقي. هجرته الى اسرائيل ضاعفت احساسه بالوحدة والعزلة، فاقم في ذلك جهله اللغة العبرية والصعوبات التي واجهته للتأقلم مع نمط الحياة في الكيبوتز. ففي البداية العبرية كانت “لغة باردة” لغة الاوامر“أعمل، كل، نظم، نم”، لغة عسكر. من هنا السنة الاولى للكاتب في اسرائيل لم تكن بداية الانفتاح على العالم ولكن سنةالانكفاء والانكماش على النفس. خلالها تعرف على اللغة العبرية والتوراة وقصائد الشاعر بياليك. وشيئاً فشيئاً بدأت تنطفىء داخله لغته الأم الالمانية الذي كان موتها بالنسبة اليه بمثابة موت جديد لأمه: «من دون لغة صرت حجراً كنت أذبل ببطء وببشاعة تماما مثلما تذبل الحديقة التي كانت وراء منزلنا في الشتاء… طوال حياتي كنت اكره كل الذين فرضوا علي التكلم بالعبرية والان بعد موت لغتي الام كراهيتي لهم ازدادت.كل ما ورثته عن أهلي وبيتي ضاع الى الابد ،أما هذه اللغة الجديدة التي يقولون انها ستصبح لغتي الام ليست سوى أماً بالتبني».

حاول الكاتب البحث عن صلة مختلفة باللغة العبرية صلة خاصة بعيدة عن الآلية والكلمات الكبيرة والمدعية. وهنا يتحدث عن عدد من الاساتذة الذين كان لهم دور كبير في تعريفه على الادب العبري وجمعيهم كانوا ثنائيي اللغة مزجوا بين أكثر من ثقافة. وهكذا بدأت مسيرة الكاتب في بناء ثقافته ولغته القائمة على الجمع بين ثقافات عدة وتخطي الازدواجية التي كان يعيشها في السنوات الاولى لإقامته في اسرائيل من دون ان يكون ذلك على حساب القضاء على ذاكرته وروحه، وفي الوقت عينه بدأت مسيرته ككاتب باللغة العبرية.

يتحدث عن البدايات: «كتابتي كانت مثل السير على رؤوس الاصابع، حذرة، متشككة "احيانا كثيرة كان يصيبه اليأس فيقرر هجر الكتابة قائلاً لنفسه:" لست كاتبا، لست سوى لاجىء، رجل يحمل في داخله طفل الحرب، يتحدث بصعوبة ويبذل جهده ليقتصد بالكلمات». ورغم النقد القاسي الذي وجه لكتاباته رفض ان يصنف كاتباً للمحرقة النازيةودافع عن نفسه قائلاً: «ارفض ان أكون حامل رسالة او كاتب يوميات الحرب، اريد العودة الى الاماكن التي عشت فيها وان اكتب عنها. الماضي مادة سيئة للأدب. الأدب هو حاضر حارق ليس بالمعنى الصحافي للكلمة ولكن تطلع لتجاوز الزمن عبر الوجود الازلي».

“حكاية حياة” من بين الكتب التي تحتل مكانا خاصا في الأدب الاسرائيلي المعاصر، الحكاية التي رواها لنا أبلفاد بحرقة وشغف وصدق وشفافية تثبت انه ليس كاتباً للمحرقة النازية ولكارثة إبادة اليهود انه كاتب من نوع آخر يتحدث عن الإنسان والحرب، عن اللغة والهوية الضائعة، عن الرغبة في الحياة والقدرة السحرية للأدب في اعادة تركيبها وتحدي الموت والخوف، انها عمل ايمان بمعجزة الفن الادبي ودوره في خلاص الانسان من المه وحزنه ويأسه

مصادر
النهار (لبنان)