كما كان متوقعاً، لم يأت الخطاب المنتظر للرئيس الأميركي أول من امس بأي جديد في مواجهة حال التململ الشعبي والضغوط المتزايدة لجهة تحديد جدول زمني لسحب القوات الأميركية من العراق. هذا لا يعني ان أحداً كان يتوقع ان يعلن بوش موعداً لسحب قواته في مواجهة حرب الاستنزاف التي تشنها قوى محلية، تساندها قوى اقليمية، همها الاساس افشال مشروع الديموقراطية في الشرق الاوسط، انطلاقاً من العراق، حتى لو كان ذلك ليس السبب الحقيقي وراء الحرب.

فأميركا هي القوة العسكرية الاعظم في العالم، ومن غير المعقول ان يتوقع من صاحب البيت الابيض ان يرفع العلم الابيض، استسلاماً فورياً، او مؤجلاً، مهما كان ذلك الاستسلام مبطناً او مغلفاً بمسوغات، لوقف النزيف المستفحل. خلاصة الخطاب هي ان اميركا، في عهد الرئيس الحالي، لن تسحب قواتها من العراق، ما لم تنجز المهمة المحددة، التي ارسلت من اجلها، مهما كان الثمن. فالحرب في العراق، هي «الجبهة المركزية» للحرب على الارهاب، ولا يمكن لأي رئيس اميركي، ولهذا الرئيس تحديداً، ان يعلن هزيمة اميركا، بإعلانه سحباً مبكراً لقواته.

ما يعنيه ذلك هو ان القوات الاميركية باقية الى ان تتمكن القوات العراقية من القضاء على «الجهاديين» المناوئين للمشروع الاميركي، او اقله الى نهاية فترة بوش الرئاسية الثانية. كان بإمكان الرئيس الاميركي ان يقول الحقيقة للأميركيين، بدلاً من ان يكرر مبررات اكتشفها بأثر رجعي واستخدمها في حملته الانتخابية، وعلى مدى الاشهر الماضية، ولم تعد تقنع غالبية الاميركيين. كان بإمكانه، مثلاً، ان يقول لهم: ذهبنا الى الحرب لإطاحة النظام العراقي، واقامة نظام لا يعادي المصالح الاميركية الحيوية في الشرق الاوسط، واهمها النفط، الذي يمثل عصب الحياة لإقتصادنا.

وبما ان قوة الاقتصاد الاميركي هي التي ابقتنا القوة العسكرية الاعظم في تاريخ البشرية، فإن الحرب استهدفت الحفاظ على هذا الموقع الذي هددته سياسات صدام حسين، بتواطؤ فرنسي وروسي وصيني وعربي، ما سمح لدكتاتور العراق، ان يخرج من «الصندوق» الذي وضعناه فيه منذ حرب 1991. إذ تمكن من شراء نفوذ اقليمي له على حسابنا من خلال استخدام النفط سلاحاً يحقق استراتيجيته التي سعى سابقاً الى تحقيقها بغزو واحتلال الكويت، قبل ان يتدخل والدي لطرد قواته واعادة النظام الاقليمي الى وضعه السابق. ألم تسمعوا بصفقات النفط مع شركات «توتال» و«الف اكيتين» الفرنسية، وصفقات الاسلحة الآجلة بالبلايين مع روسيا، وتزويد الاردن بنصف احتياجاته النفطية «مجاناً»، قبل ان يفتح صدام انبوب النفط الواصل الى سورية، هدية لها في مقابل تسليمها بقيادة صدام لمشروع القومية العربية، كله على حساب معاناة الشعب العراقي، وهي المعاناة التي ألقى العالم مسؤوليتها علينا وعلى حلفائنا البريطانيين بسبب الحصار؟ الم تسمعوا بكوبونات النفط لكبار المسؤولين والمتنفذين في الشرق والغرب لشراء النفوذ وصولاً الى شراء الامم المتحدة والاصوات في مجلس الامن؟ الم تسمعوا بتهريب النفط الى ايران وتركيا بأربعة دولارات للبرميل؟ كان بإمكان بوش، على الاقل، ان يقول للأميركيين بانه كان سعى لتفادي الحرب من خلال محاولة احتواء نظام صدام واستراتيجيته سلمياً، بإطلاق مبادرة «العقوبات الذكية» التي حملها كولن باول الى المنطقة في العام 2001. إلا ان دول المنطقة، مدعومة بقوى دولية، رفضت تطبيقها، على رغم انها كانت ترفع كل العقوبات الاقتصادية عن العراق في مقابل تشديد الحظر العسكري ومنع تهريب النفط الذي كان يفيد النظام العراقي.

وكان بإمكانه ان يقول للأميركيين ان الحرب كانت بهدف الحفاظ على اسلوب حياتهم ورفاهيتهم، وهو ما يجعل اميركا تستهلك ربع انتاج العالم من النفط، وبأن عدم شن الحرب كان سيعني ان صدام وحلفاءه الاقليميين والدوليين المعادين لأميركا كانوا سيتمكنون من ابتزاز اميركا من خلال ابتزاز اقتصادها وجعلها مجرد دولة مستهلكة كبيرة مثل دول كثيرة. كان بإمكانه ان يذكرهم بالعام 1973 وبالحظر على صادرات النفط الذي سبب ازمة غير مسبوقة في اميركا، ولماذا اقسمت الادارات الاميركية المتعاقبة بألا تتكرر التجربة... كان بإمكانه ان يقول الحقيقة، لكنه لم يستطع، لأن ذلك سيعني الاعتراف بأنه لم يقل كل الحقيقة عندما اخذ الاميركيين الى الحرب وعندما تمسك بمبرراته السابقة خلال حملته الانتخابية. كما انه ليس هناك أي مبرر للإعتقاد بأن الاسباب الحقيقة للحرب كانت ستقنع ما يكفي من الاميركيين لتأييدها اكثر مما اقنعهم التهديد بالارهاب واسلحة الدمار الشامل...

وهكذا، يعيش الاميركيون والعالم معهم كذبة بأثر رجعي، تقول إن الحرب هي من اجل دمقرطة الشرق الاوسط، فيما يعيش العرب، ومعهم جزء كبير من العالم، كذبة ان القتلة والمجرمين في العراق يريدون تحرير العراقيين من الاحتلال بقتل اكبر عدد ممكن منهم.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)