أخيرا، تنبهت منظمة “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية الامريكية، الى زاوية صغيرة (من زوايا كبيرة متعددة) تقوم فيها “اسرائيل” بانتهاك حقوق الانسان باشكال فادحة وفاضحة. ومع أن هذا الاهتمام ايجابي بكل الاحوال، لأنه خطوة (مهما كانت متواضعة) في الطريق الصحيح، غير ان من اللافت للنظر ان المنظمة الحقوقية الامريكية حصرت هذه المخالفات “الاسرائيلية” في السنوات الخمس الاخيرة، مع ان مخالفات “اسرائيل” اكبر حجما بما لا يقاس، من تلك المشار إليها مؤخرا، واقدم تاريخا من السنوات الخمس الاخيرة، فهي تعود، على الاقل، الى تاريخ تأسيس “اسرائيل” في العام 1948.

كما أن المنظمة الحقوقية الامريكية، نسيت وهي تحدد موضع الخطورة في المخالفات “الاسرائيلية”، فتصفها بأنها تؤدي عمليا الى نشر ثقافة التحصين من العقاب، لدى جنود “اسرائيل” ان ثقافة تحصين جنود دولة ما ضد العقاب الدولي بالذات، قد اندفعت اليها “اسرائيل” تقليدا للولايات المتحدة، التي رفضت التوقيع على اي معاهدة دولية يمكن ان يؤدي التوقيع عليها الى احتمال خضوع الجنود الامريكيين للعقاب على جرائم الحرب التي يرتكبونها، او الجرائم ضد الانسانية، فلم توقع واشنطن على أي من هذه الاتفاقيات، الا في حالة واحدة فقط، هي الحصول على تعهد مكتوب بأن قوانين الاتفاقية تتيح محاكمة جنود اي دولة في العالم، يخالفون بنودها، الا جنود الولايات المتحدة.

طبعا، لا جدال في أن منظمة “هيومان رايتس ووتش”، محقة تماما في التنبيه من خطورة انتشار ثقافة “التحصين من العقوبة”، بين جنود “اسرائيل”، لكن القضية في “اسرائيل” اخطر من ذلك وأكثر ايغالا في التاريخ، عودة الى منتصف القرن العشرين، كما أن انتشار هذه الثقافة بين جنود أكبر دولة في العالم (الولايات المتحدة)، ابعد اثرا على السلام العالمي، من انتشارها بين جنود “اسرائيل”.

ولو بدأنا بالجانب “الاسرائيلي” من الموضوع، فإن بإمكان المنظمة الحقوقية الامريكية، لو شاءت متابعة مهماتها حتى النهاية، ان تعود الى العام ،1948 فتكتشف ان “اسرائيل”، قد قامت قبل الاعلان الرسمي عنها كدولة معترف بها في الامم المتحدة، بالاستيلاء على اراض فلسطينية تتجاوز بنسبة عالية الحصة التي خصصها لها قرار التقسيم من ارض فلسطين التاريخية.

بعد هذه المخالفة، ارتكبت “اسرائيل” جريمتين ولا أكبر، بموجب كل الوثائق الدولية، التي يقوم على اساسها عمل “هيومان رايتس ووتش”:

* جريمة طرد مئات الآلاف من سكان فلسطين الاصليين.

* جريمة الاستيلاء على ممتلكات هذا الشعب وفقا لقانون عجيب غريب (قائم حتى الآن) اسمه “قانون الاستيلاء على املاك الغائبين”.

والتكامل اللاأخلاقي واضح بين هاتين الجريمتين الكبيرتين، ف “اسرائيل” تبدأ أولا بإجبار الفلسطينيين على الغياب عن وطنهم خوفا من اجتياح القوات المسلحة الصهيونية، ثم هي تعتبر الاستيلاء على اراضيهم بعد ذلك شرعيا، لأنها “اراضي الغائبين”.

هذا عن الملف القديم، اما الملف الاكبر بعد ذلك فهو ما ترتكبه “اسرائيل” يوميا في المناطق المحتلة منذ ثمانية وثلاثين عاما، من مخالفات وصفتها “هيومان رايتس ووتش” بدقة بأنها مخالفة “للمعايير الدولية، وللقانون الدولي، ولمعاهدات حقوق الانسان”.

إن المنظمة دقيقة جدا في الوصف القانوني لهذه المخالفات، لكنها ليست دقيقة عندما تحصرها فقط في السنوات الخمس الاخيرة، ذلك أنها تعود (في هذا الملف الثاني وحده) الى ثمانية وثلاثين عاما خلت.

فإذا التفتنا بعد ذلك الى خطورة انتشار ثقافة “التحصين من العقوبة”، فعلينا التنبه تماما الى ان جيشين فقط في العالم، يتمتعان عمليا بهذه الحصانة هما جيش “اسرائيل”، وجيش الولايات المتحدة.

المعنى العملي لخطورة هذا الوضع (الذي لا تتنبه منظمة هيومان رايتس الا الى جزء بسيط منه) أن جنود اي جيش في العالم غير محصنين من عقاب المؤسسات الحقوقية الدولية المختصة اذا ما ارتكبوا “جرائم حرب” أو “جرائم ضد الانسانية”، ما عدا الجنود “الاسرائيليين” والامريكيين، فقد وضعتهم ثقافة “التحصين” المدعومة بقوة الولايات المتحدة، فوق اي قانون، وبالتالي فوق اي عقاب.

الذي يطرح نفسه بالحاح عند هذه النقطة: هل أن منظمة “هيومان رايتس” تتحمل وحدها مسؤولية الاثارة الجزئية الخجولة لهذا الموضوع الخطير؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)