لا شك أن من حق المثقفين والمعارضين والشعوب العربية بشكل عام أن تفضح تذرع الأنظمة العربية وتحججها ب"الخطر الصهيوني" وتعليق تخلفها وتخبطها على المشجب الإسرائيلي. ليس هناك أدنى شك في أن معظم الحكومات العربية استغلت أحياناً وجود إسرائيل لغاية في نفس يعقوب، فحكمت بالقوانين الاستثنائية الصارمة والحديد والنار وأحكمت قبضتها على شعوبها ونكلت بها وعاثت خراباً وفساداً في البلاد بحجة مواجهة "العدو" بينما كان الهدف لأغراض سلطوية مفضوحة. لكن تلك الحقيقة على مرارتها وثبوتها يجب أن لا تعمينا عن أن إسرائيل لعبت وما زالت تلعب دوراً تدميرياً خطيراً في المنطقة العربية وأنها سبب البلاء وعدم الاستقرار في الكثير من الأحيان بغض النظر عن استغلال الأنظمة للعلة الإسرائيلية لهذا الغرض أو ذاك.
من منكم مايزال يتذكر أن هناك في هذه المنطقة دولة اسمها إسرائيل؟ لماذا بدأنا نـُخرج الدولة العبرية من معادلاتنا؟ إن أخطر ما في الأمر أن بعض المثقفين والإعلاميين العرب بدأوا يتجاهلون العامل الإسرائيلي تماماً وهم يوجهون سهامهم إلى الأنظمة العربية، فبدلاً من فضح المطامع والمؤامرات الإسرائيلية على العراق مثلاً ما انفكوا يصبون جام غضبهم على ديكتاتورية النظام العراقي. لا بل إن الكثير منهم راح يعتبر "الخطر الصهيوني" مجرد وهم لا وجود له على أرض الواقع. والبعض الآخر يسخر من كل من يحاول الإشارة إليه كأحد أسباب الأزمات والمحن العربية، لا بل يعتبرونه مجرد اسطوانة مشروخة. وقد لاحظنا كيف أن الكثير من اللبنانيين مثلاً سخروا من احتمال قيام إسرائيل باغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وقد أسرّ لي أحد السياسيين اللبنانيين الوطنيين أنه لم يعد بإمكانه اتهام إسرائيل بأي شيء خوفاً من سخرية الآخرين وتهكمهم حتى لو كان الإسرائيليون مسؤولين فعلاً عن هذه المشكلة أو تلك. وهنا مكمن الخطر.

لم تعد إسرائيل بالنسبة للعديد من "الليبراليين العرب الجدد" عائقاً أمام التنمية وإهدار الموارد على التسلح أو سبباً في غياب الديمقراطية. لهذا ترى أن جل انتقادهم للأوضاع العربية المتردية يتركز على الحكومات والشعوب العربية دون الإشارة ولو بالتلميح إلى السبب الإسرائيلي. واعتقد أنهم بذلك يقدمون لإسرائيل تبرئة مجانية وكأنها بريئة مما لحق بنا ويلحق من مصائب براءة الذئب من دم يوسف.

ونظراً لأن نسبة الأمية السياسية في عالمنا العربي مرتفعة للغاية فإن الكتابات والآراء المبرِئة لتل أبيب(بكسر الراء) قد لاقت آذاناً صاغية لدى الكثيرين من القراء والمستمعين والمشاهدين العرب. وقد ساعد في ذلك وجود أنظمة عربية فاسدة خففت كثيراً من الحقد الشعبي على "العدو التقليدي" من خلال تصرفاتها الهمجية مع الشعوب وجعلت الناس تكفر حتى بثوابتها الوطنية. فقد وصل الأمر ببعض العرب إلى الإعجاب بالمثال الإسرائيلي بعد أن كان رمزاً لكل ما هو سييء في ثقافتنا العربية.

لكن الحل لا يكمن في الثأر من الأنظمة العربية الحاكمة والتقرب من العدو على مبدأ "ليس حباً بعلي بل كرهاً بمعاوية". فهذا يمكن أن يكون كالدواء المهدىء قليلاً لكنه غير قادر على القضاء على المرض أو إشفائه. مخطىء تماماً من يحاول التقليل من خطورة العامل الإسرائيلي، فالخطر الصهيوني لم يختف أبداً بعد معاهدات ومبادرات السلام التي عقدتها بعض الدول العربية مع إسرائيل لا بل إنه يزداد حدة ويتخذ أبعاداً أكثر إيلاماً وفتكاً بعد وصول "المحافظين الجدد" إلى سدة الحكم في أمريكا.

لم يكتف الإسرائيليون بما فعلوه بفلسطين من احتلال لأرضها وتشريد لأهلها واغتصاب لبعض الأراضي السورية واللبنانية والمصرية بل راحوا يمدون أذرعهم الاخطبوطية إلى مناطق عربية بعيدة جداً، فقد أعلن الباحث الإسرائيلي موشي سيرجي في مؤتمر عـُقد في جامعة بار إيلان قبل فترة أنه "ينبغي أن يكون السودان امتداداً طبيعياً لإسرائيل، فأرض دولة السودان تقع ضمن الاستراتيجية الأمنية التي وضعها بن غوريون". وأضاف سيرجي أن "خطة تقسيم السودان الى أربع دول تعتبر من أولويات الأجنده الإسرائيلية في منطقة الشرق الاوسط". فإذا كانت مخططات التطويف والتمزيق والاستهداف الإسرائيلية قد وصلت إلى السودان فما بالك بدول الطوق المحيطة بإسرائيل؟

هل يستطيع الذين يحاولون تجاهل الخطر الإسرائيلي أن ينكروا أن ما حل بالعراق بلداً وشعباً من خراب ودمار مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمخططات والمصالح الإسرائيلية؟ هل أخطأ أحدهم عندما قال إن أكبر مستفيد من تدمير العراق هو إسرائيل؟ إن محاولات إضعاف العراق وتقليم أظافره لم تبدأ بالغزو الأمريكي بل تعود إلى ثمانينات القرن الماضي عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مفاعل "تموز" النووي. ولم يكن تدمير المفاعل العراقي سوى بداية لاستهداف العراق ومن ثم القضاء على قوته العسكرية وتحويله إلى عشائر وقبائل وطوائف وملل ونحل متصارعة من أجل أن يستتب الأمن لإسرائيل. لقد بات مطلوباً إخصاء كل الدول العربية عسكرياً كي تبقى إسرائيل الفحل الوحيد في المنطقة. ومما يعزز نظرية أن غزو العراق كان لأغراض إسرائيلية في أحد جوانبه أن الذين اتخذوا قرار الغزو في معظمهم هم من المحافظين الجدد ذوي الهوى الصهيوني الصارخ في العقيدة والتوجه. ويقول أحد الساخرين إن "الديمقراطية" الامريكية قررت إعادة العراق إلى العصر الحجري افتداء لمصير شعب الله المختار.

والأخطر من كل ذلك أن غزو العراق وتدميره من أجل إسرائيل لم ينته هناك بل وصلت تبعاته ومفاعيله إلى العديد من الدول العربية المجاورة. بعبارة أخرى فإن ما تعانيه سوريا والسعودية وما قد تعانيه دول أخرى مثلاً من عدم استقرار مرتبط في أحد جوانبه بالأهداف الإسرائيلية في العراق.

لقد تسببت إسرائيل وأمريكا من خلال تدخلهما في العراق بزعزعة الأوضاع في سوريا مثلاً وبلدان عربية أخرى. وبذلك فإن التأثير الإسرائيلي على الساحة السورية لم يعد مرتبطاً فقط باحتلال الجولان بل بالمخططات الإسرائيلية في العراق، فوجود القوات الأمريكية (الإسرائيلية) على الحدود الشرقية لسوريا من شأنه أن يزيد في محنة سوريا شعباً وحكومة. وبدلاً من إلغاء قوانين الطوارئ تجد القيادة السورية نفسها مضطرة لأن تبقيها ولو بصورة مخففة. ولا أحد يستطيع أن يقول لها إلغي القوانين الاستثنائية لأن الحكومة يمكن أن تبرر موقفها بسهولة بالقول إنني في حاجة لقوانين الطوارئ أكثر من أي وقت مضى بسبب تفاعلات الوضع في العراق وتدهور الأوضاع في المنطقة بسبب التغلغل الأمريكي والإسرائيلي، وإن مطالب المعارضين بالانفتاح والحرية والديمقراطية مطالب مشروعة لكن هل الظروف الداخلية والإقليمية مناسبة لتحقيقها أم أنها غدت فعلاً أكثر سوءاً. ومن سخرية القدر أن الأصوات المطالبة بإلغاء قوانين الطوارىء كانت شبه خافتة عندما كانت الأوضاع مستقرة في سوريا، وما أن ساءت الأحوال حتى راحت تلك الأصوات ترفع وتيرتها. عجيب!

قد يعير البعض سوريا بأن جبهة الجولان باردة منذ ثلاثة عقود وبالتالي لا داعي للأحكام العرفية وهذا صحيح من الناحية النظرية، لكن ألم تنتهك إسرائيل حرمة الأراضي السورية أكثر من مرة في الآونة الأخيرة؟ ألم تصل أذرع الموساد إلى داخل دمشق؟ أليس من شأن ذلك أن يجعل الحكومة السورية تزيد من اهتمامها المشروع بالتسلح الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على الميزانية الوطنية وحياة الشعب ورفاهيته بشكل عام؟ وكذلك الأمر بالنسبة للبنان الذي ما انفكت إسرائيل تنتهك سيادته وتروعه يوماً بعد يوم، ولولا هيبة حزب الله العسكرية لكان الوضع أخطر بكثير.

أما الوضع الفلسطيني فهو بالرغم من كل همروجات السلام المزيف يزداد خطورة وتأزماً بسبب المشاريع الإسرائيلية التي باتت معروفة للجميع، حيث لم يكتف الإسرائيليون بجدار الفصل العنصري بل هم عازمون الآن على بناء جدار عازل تحت الماء كي يمنعوا الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم. ولا داعي للتذكير بعمليات التدمير والقتل اليومي التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين بشكل ممنهج.

وحتى بعض البلدان التي أبرمت اتفاقيات مع إسرائيل مازالت بعض مشاكلها مرتبطة بالعامل الإسرائيلي وتشعباته. هل نسينا كيف قـُتل أنور السادات مهندس السلام مع الإسرائيليين ولماذا، وماذا جر قتله على مصر من قوانين طوارىء وقمع للحريات؟ وهل نسينا أيضاً أن حال العجز والهوان والتشرذم الذي آلت إليه الأوضاع العربية يعود في بعض أسبابه إلى إخراج مصر العمق العربي الأول من الدائرة العربية عن طريق اتفاقيات كامب ديفيد ومن ثم الاستفراد ببقية الدول. ولم يكن ذلك ليحدث إلا من أجل عيون إسرائيل. أليس حرياً بنا أن نربط الحاضر دائماً بالماضي؟

ولا يختلف الأمر بالنسبة للسعودية وغيرها من دول الخليج. إن أمن الخليج أصبح بعد غزو العراق متأثراً بالمخططات الإسرائيلية والأمريكية في العراق. وهناك مثل شعبي بسيط يقول: "إن حلق جارك بل ذقنك!" فلو، لا سمح الله، تفاقم الوضع العرقي والطائفي المدفوع إسرائيلياً وأمريكياً في العراق لن يسلم منه الجيران. وبالتالي ليس صحيحاً أبداً أن الخليجيين بمنأى عن الخطر الإسرائيلي الاخطبوطي، فالخطر أشبه بالخلايا السرطانية التي تبدأ من مكان معين لتنتشر فيما بعد في معظم أنحاء الجسم.

صحيح أن إسرائيل كانت نعمة من السماء لبعض الأنظمة العربية، وصحيح أيضاً أنه لو لم تكن موجودة لاخترعوها، وأن البعض رفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" من باب "الهمبكة" واستغله لمنافعه الخاصة وأسهم في تخلف مجتمعاته سياسياً واقتصادياً، إلا أن استغلاله لذلك الشعار لا ينفي ولا يقلل من خطورة العامل الإسرائيلي وآثاره الوخيمة على العالم العربي. باختصار فإن الذين يحاولون التركيز على الأزمات العربية بمعزل عن التأثير الإسرائيلي إنما يحكمون بغير عدل مثلهم في ذلك مثل القاضي الذي ينتصر للجلاد ويعاقب الضحية حتى وإن كانت تلك الضحية (الأنظمة العربية) مذنبة أيضاً كي لا نـُتهم بممالأتها مجاناً.

إن الشبح الإسرائيلي ما زال يخيم على المنطقة العربية حتى السودان كما رأينا، وليس صحيحاً أبداً أن الصراع مع الصهاينة أصبح من مخلفات الماضي. إنه، على العكس من ذلك، يزداد استفحالاً ويأخذ أبعاداً أشد خطورة، فالمخططات الأمريكية الرهيبة للسيطرة على المنطقة والتحكم بها ليست منفصلة عن المشاريع الإسرائيلية بأي حال من الأحوال. ويكفينا فقط أن نتذكر أن أهم ثابتين في السياسة الأمريكية في العالم العربي هما البترول وإسرائيل بشهادة الأمريكيين أنفسهم. أي أن الإسرائيليين شركاء حقيقيون للأمريكان في استراتيجيتهم الخاصة بالمنطقة العربية. وبالتالي على الذين يسخرون من نظرية المؤامرة ويحاولون تسفيه كل من يضع يده على موطن الداء أن يفتشوا عن إسرائيل وسيجدون أن لها في كل عُرس قـُرصاً.

مصادر
الشرق (القطرية)