لم يكن قد مضى على تكليف فؤاد السنيورة تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة سوى ساعة، حتى وصلته اول برقية عاجلة مفادها ان «حزب الله» نفذ عملية عسكرية ضد القوات الإسرائيلية في «مزارع شبعا» في الجنوب اللبناني.

لم يضرب السنيورة كفا بكف. هذه أمور صار معتادا عليها ولو انه مهتم بالتوقيت والظروف. راجع المعنيين سريعا وجاءه الجواب ان لا شيء يستوجب القلق. استفسر من رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، فافاده بانه على اتصال مباشر مع قيادة «حزب الله» ومع البعثات اللبنانية في واشنطن ونيويورك.

تم الاتفاق على بذل كل جهد ممكن من اجل الحفاظ على هدوء «الخط الازرق»، سيما وان لبنان عشية طلب التجديد لمهمة قوات الطواريء الدولية في الجنوب اللبناني .

وهناك مناخات دولية غير مؤاتية لأي خطوة ناقصة او مدروسة خشية ان يحاول الاميركيون التسلل من موضوع «الطوارئ» إلى الموضوع الاصلي، اي القرار 1559 وتحديدا الشق المتعلق بنزع سلاح «حزب الله».

قبل تلك الليلة تحديدا، التقى فؤاد السنيورة على مدى اكثر من ساعتين بزعيم «حزب الله» حسن نصرالله، استكمالا للقاء عقده الثاني مع زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري بعيدا عن الاضواء وتبلغ خلاله نصر الله رغبة آل الحريري بترشيح السنيورة لرئاسة الحكومة الجديدة.

تشعب البحث بين السنيورة ونصر الله عشية التكليف من قضية سلاح «حزب الله» والتجديد لنبيه بري على رأس المجلس النيابي والحكومة الجديدة والبيان الوزاري الذي ستطلب على أساسه ثقة النواب والمسألة المتصلة بعلاقة رئيس الحكومة بقيادة المقاومة وعلاقة المقاومة بتيار الحريري.

يدرك نصرالله ان السنيورة في زمن رفيق الحريري كان مؤتمناً على الملفات المالية والاقتصادية والنقدية، لكنه يدرك ايضا ان السنيورة كان بين قلة من فريق رئيس الوزراء الراحل ممن كان يطلعهم منذ منتصف التسعينات وتحديدا بعد حرب ابريل 1996 على تفاصيل العلاقة التي نشات بينه وبين قيادة «حزب الله» والتي بلغت مستوى نوعيا ومنتظما في الشهور الاخيرة التي سبقت مقتله.

بهذا المعنى، لم يتفاجأ السنيورة بالعملية الاخيرة وبالتالي من احتمال ان تتكرر هكذا عملية في المستقبل، لا بل ان نصر الله اعاد التاكيد له في اللقاء الذي جمعهما قبل ايام ان افضل ضمانة للموسم السياحي للبنان في السنوات الاخيرة هي حالة توازن الرعب التي وفرتها المقاومة للبنان والتي لم يعد معها بمقدور الإسرائيلي ان يحاول ابتزاز لبنان لا بالبنى التحتية ولا المنشآت المدنية الحيوية كما كان يفعل في السابق.

لقد بُح صوت وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز في الآونة الاخيرة محاولا التأثير في مسار التطورات السياسية الداخلية اللبنانية. راح يملي التعليمات اليومية على قيادة جبهته الشمالية بان تتخذ كل الاحتياطات الكفيلة بعدم السماح لـ «حزب الله» من تنفيذ عملية نوعية يعد لها منذ فترة طويلة وذلك ربطا بتقارير استخباراتية وامنية وعسكرية، بهدف محاولة أسر جنود إسرائيليين جدد لمقايضتهم بالاسيرين اللبنانيين سمير القنطار ونسيم نسر.

وجثث مفقودين لبنانيين واسرى فلسطينيين وغيرهم. ولم يتردد موفاز في اطلاق الصرخة عاليا عبر اكثر من محطة تلفزيونية إسرائيلية مؤخرا بان «حزب الله» يستعد للقيام بعمل عسكري ما في الجبهة الشمالية.

اكتملت الاستعدادات من الجانبين. صارت اللعبة مكشوفة. هناك تقدير عن استنفار شمل المئات وربما الآلاف من مقاتلي «المقاومة الاسلامية». عناصر الوحدات الخاصة المدربة على اعمال الخطف انهت مناوراتها الميدانية، عناصر المساندة، السيارات، المدفعية، جهاز الاتصال، الوحدات الطبية، عمليات التمويه، البيوت .

والنقاط المجهزة للعملية، طرق تقليدية واخرى مستحدثة. انضبطت المواقع من اقصى نقطة غربا قرب الناقورة إلى اقصى نقطة شرقا في منطقة «المزارع» مرورا بكل نقاط الدعم في القطاعات الغربي والاوسط والشرقي. كان المطلوب فقط تحديد «ساعة الصفر».

في الطرف المقابل، استقدم الإسرائيليون قوات اضافية إلى مواقعهم في «المزارع» وبعض المواقع الحيوية في المنطقة الشمالية. تم تعزيز سلاحي المدفعية والطيران. طلب من الجنود ان يكونوا بأقصى جهوزية في مواقعهم. الأهداف المتحركة تقتصر على الدوريات الروتينية على طول الخط الحدودي بما في ذلك منطقة مزارع شبعا.

ويقال ان الإسرائيليين استنفروا بعض عملائهم في المناطق الحدودية اللبنانية المحررة ليكونوا على اهبة الاستعداد وتزويدهم بتقارير على مدار الساعة عن تحركات المقاومة واي تطور على الارض يرافق اي هجوم للمقاومة.

جرى تكثيف الطلعات الاستطلاعية للطيران الحربي كما تم تعزيز المواقع بعدد من الكاميرات ومناطيد المراقبة الاضافية بالإضافة إلى بعض القطع العسكرية المزودة بمناظير ليلية خاصة دبابات «الميركافا».

جرت العادة ان يسيّر الإسرائيليون دورياتهم بطريقة كلاسيكية ووفق خطوط محددة مسبقا تبعا للتقسيمات العسكرية. فهذه الدورية تنطلق من المركز الفلاني وتبقى على اتصال مع قيادتها ولا تتجاوز قطاعها الجغرافي والامني خوفا من تداخل يؤدي إلى ارباك يستفيد منه «حزب الله» في لحظة ثمينة لخطف جنود كما حصل في العام 2000 ولو انه لم يأسرهم احياء.

ولعل مصدر الضعف الاساسي عند الإسرائيليين ان الخط الازرق في «المزارع» هو خط وهمي. الإسرائيليون يتصرفون في الاصل على اساس ان «المزارع» سورية والحزب يتصرف على انها لبنانية، لكن المنطقة الفاصلة بين «الرمتا» و«السماقة» تحتمل تداخلا وتعقيدات اضافية، ما يجعلها رخوة للغاية من الناحية العسكرية عند الإسرائيليين، وكل التقديرات كانت تقول بان المقاومة ستحاول على الارجح التسلل عبر هذه الثغرة تحديدا.

وفي «الساعة الصفر»، رصدت دورية المراقبة الروتينية في هذا القطاع بالتحديد. ليس جديدا ان يحاول الإسرائيليون بمفهوم «حزب الله» ان يتجاوزوا «الخط الازرق» في منطقة غير متفق على ترسيم حدودها بدقة وحيث عرض الشريط الشائك.

والآخذ بالاتساع في الأيام الأخيرة، يضيف المزيد من الالتباسات. الخرق واقع يوميا بالمعنى التقني. لكن عندما يتخذ «حزب الله» قراره بمواجهة هكذا «خرق» يكون توقيته سياسيا معطوفا على الاعتبارات العسكرية واللوجستية.

المقاومون في حالة جهوزية. تلقوا «كلمة السر». دوى صوت شرك العبوات وكان انفجاره في الثواني الأولى كفيلا بقتل جندي إسرائيلي وجرح آخرين، تماما كما هو مرسوم حسب خطة المقاومة. الخطوة الثانية هي اقتحام المكان وسط تغطية مدفعية واسعة هدفها إلهاء جميع المواقع .

ومن ثم محاولة أسر الجنود الذين اصيبوا في الكمين. اقتحم المقاومون المكان، لكن الإسرائيليين فاجأوهم بوابل من نيران المدفعية التي ادت منذ اللحظات الأولى إلى استشهاد مقاوم وجرح آخرين.

نفذ المقاومون خطتهم الهجومية على اكمل وجه ووصلت قذائفهم إلى مواقع الإسرائيليين في الجولان السوري المحتل، ولكن الهدف الرئيسي للهجوم لم يتحقق، فقد تعذر أسر اي جندي، سواء اكان حيا ام ميتا، لا بل صار لزاما على المقاومين سحب رفيقهم القتيل ورفيقيهما الجريحين. طبعا هناك الكثير من الوقائع المتصلة بمشاركة كل المجموعات .

وتقدم السيارات التي كانت ستنقل الاسرى إلى اقرب نقطة محددة لها فضلا عن اكتمال ادوار باقي المجموعات ميدانيا ولوجستيا ولكن المجموعة الهجومية الاساسية، تعثرت مهمتها النوعية، ولعل بعض الجنود الإسرائيليين قد جرحوا جراء القصف المدفعي الذي قامت به مواقع إسرائيلية خلفية ودبابات ميركافا كانت تتخذ شكل كمائن نارية في كل المناطق المطلة على نقطة الرمتا ـ السماقة الرخوة.

وحسب بعض المتابعين، فإن «حزب الله» تكتم على خسائره فيما كان الإسرائيليون يعترفون ولو متاخرين بسقوط قتيل وجرح عدد آخر من الجنود. ويقول المتابعون ان «حزب الله» حاول منع اقتراب الإسرائيليين من جثة المقاوم لكنه اخفق في سحبها ما جعل الإسرائيليين يقومون، وبصعوبة بالغة، في الساعات الاخيرة بنقلها إلى احدى المستشفيات في المنطقة الشمالية.

ويصر قياديون في «حزب الله» على التمسك بمقولة مفادها ان العوامل التي تحكم احيانا قرار تنفيذ عملية عسكرية ما، لا تكون بالضرورة سياسية دائما. فطالما فوّت المقاومون في مناسبات عدة فرصا تاريخية في حربهم المفتوحة مع الإسرائيليين على قاعدة الانضواء تحت سقف الممكن وغير الممكن سياسيا في ظل الاجواء السائدة في لبنان في السنة الاخيرة خصوصاً.

وتحديدا بعد حسم وجهة التمديد للرئيس اميل لحود في مطلع صيف العام 2004. إلا انه صار واضحا عند الإسرائيليين أن قيادة المقاومة اتخذت قرارا لا عودة عنه يقضي بأسر جنود إسرائيليين، في ظل تعثر التفاوض حول قضية الطيار الإسرائيلي المفقود رون اراد من جهة، وعلى قاعدة الاحتفاظ بأحقية ومشروعية عملياتها في منطقة «المزارع» من جهة ثانية.

وإذا كانت المناشير التي رمتها الطائرات الإسرائيلية قبل أيام وتدعو الحكومة اللبنانية إلى نزع سلاح الحزب، قد اعتبرت نوعا من المشاركة في الاستشارات التي كان يجريها رئيس الحكومة المكلف فؤاد السنيورة مع الكتل النيابية، فإن عملية المقاومة الأخيرة كانت نوعا من التذكير بأن الحزب ليس في وارد تعديل «الاجندة» بل على الآخرين محليا التكيّف مع هذه الحقيقة .

وبالتالي فإن الاختبار سيتمثل في ما ستتبناه حكومة السنيورة في بيانها الوزاري في موضوع المقاومة حتى يقرر الحزب مسألة الانضمام المباشر، أي بوجوه حزبية فاقعة (حسين الخليل أو محمد فنيش أو حسين الموسوي) أو عبر وجوه نصف حزبية مثل وزير الزراعة والعمل في الحكومة المستقيلة طراد حمادة وكل ذلك يبدو رهن المفاوضات الجارية لتسهيل ولادة الحكومة الجديدة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)