حين يدقق المرء في الأوضاع الحالية التي يشهدها العالم العربي، يرى بوضوح ان الشارع العربي يموج بحيوية غير مسبوقة ولا يعرف لها مثيلا في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، وهي حيوية يجب ان تقرأ مفرداتها قراءة صحيحة وان يتم التعامل والتفاعل معها بشكل ايجابي وبناء على الصعيدين الرسمي والشعبي.
تتمثل هذه الحيوية في ارتفاع وتيرة المطالبة بالتغيير والاصلاح السياسيين بعد الاحباطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتراكمة منذ السبيعينيات من القرن الماضي. والمطالبة بالتغيير والإصلاح السياسيين يقودها المجتمع المدني المدعوم من الشعوب ويشاركه فيها رجال القضاء والمحامون واساتذة الجامعات واهل الرأي والفكر، وتأخذ اشكالا عدة في التعبير عنها. ففي الدول ذات نظام الحكم الجمهوري تخرج الجماهير في مظاهرات تطالب بعدم التمديد للرؤساء، ولا لتوريث الحكم، ولا لسلطة الحزب الواحد، ونعم للتعددية السياسية والحزبية.

وفي الدول ذات الحكم الوراثي، ترتفع الأصوات المطالبة بالمشاركة السياسية في إدارة امور الدولة عبر المجالس النيابية المنتخبة، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحرية الإعلام، وتطبيق مبادىء المحاسبة والمساءلة والشفافية، ومن مظاهر الحيوية كذلك زوال ثقافة الخوف من بطش الأجهزة الامنية، حيث لم تعد مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية وجمعيات حقوق الإنسان تسكت على اي انتهاكات دستورية كما كان الحال في السابق. الخبير الاجتماعي الدكتور محمد احمد الزعبي يرى أن للتغيير اسلوبين هما: الإصلاح والثورة، فالإصلاح هو تحسين النظام السياسي والاجتماعي القائم من دون المساس بجذوره او اصوله، اي انه تعديل غير جذري في شكل الحكم او العلاقات الاجتماعية، اما الثورة فهي التغيير الشامل والكامل الذي يحدث عندما تصبح القوى القائمة على اختلاف انماطها واشكالها غير قادرة على مواجهة متطلبات المجتمع القائم. ولكل من الأسلوبين محاذيره، فالإصلاح يتصف بالبطء في خطواته ومرور وقت طويل نسبيا قبل ان تظهر نتائجه. والثورة تتصف بالمغامرة وربما بالشطط ايضا، فهي عندما تدفع المجتمع ليتقدم قفزا وحرقا للمراحل فإنما تدفعه إلى اتخاذ خطوات قد لا تكون سليمة، وقد لا يستطيع العودة بعدها إلى المراحل السابقة “التي تكون قد احترقت” إلا بعد تضحيات كثيرة. الشعوب العربية تعيش حالة من الغليان تغطيها قشرة دقيقة فوق السطح، ولا يمكن ان نتوهم ان السكون الحالي يعني الاستقرار، الأمر ليس كذلك، فالسكون حالة مؤقتة “ولو طالت فترة” من الجمود تؤدي إلى ترهل النظم الحاكمة وفسادها، بينما الاستقرار حالة مستديمة تتميز بتوازن قوى المجتمع وقدرة الجماهير على التعبير عن آرائها ومعتقداتها. السكون حالة ناتجة عن اعتماد الحلول الأمنية «القمع والتسلط«، بينما الاستقرار لا يتحقق إلا باعتماد العمل السياسي وفي مقدمته الديمقراطية الحقيقية والمشاركة السياسية الكاملة والفاعلة والوعي الوطني المستنير. اذا كان للتغيير اسلوبان “لا ثالث لهما” كما يرى الدكتور الزعبي، وان الشعوب العربية جربت الثورات والانقلابات العسكرية التي تتصف بالمغامرة في فترتي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم وان النتائج على المدى الطويل كانت كارثية بسبب انحراف كل الثورات عن اهدافها الوطنية والقومية، اصبح واضحا ان اعتماد اسلوب الاصلاح السلمي هو الطريق الصحيح والأسلم لإحداث الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة في العالم العربي. وهنا يأتي دور انظمة الحكم العربية الحالية الماسكة بزمام الأمور في تحمل المسئولية التاريخية، والعمل على العبور بشعوبها إلى بر الأمان عبر القراءة الصحيحة لمجريات الأمور في المنطقة والعالم، والتعامل والتفاعل الايجابي والبناء مع المطالب الشعبية. لم تعد الأوضاع الداخلية والاقليمية والدولية تتحمل او تقبل مبدأ سيطرة الحزب الواحد او الفئة الواحدة او الحاكم الفرد على مقدرات الشعوب، وان الشعوب العربية دفعت الثمن الفادح في كل المراحل سواء كان للاستعمار الاجنبي او الاستبداد الداخلي، واعتقد ان ما يعانيه الشعب العراقي في الوقت الحالي يمثل النموذج الواضح لهذه الدائرة. لقد بات على انظمة الحكم العربية ان تتخلص من شرعيتها المستمدة من سطوة القوة والقمع والارث التاريخي، وان تستبدلها بشرعية دستورية اساسها التوافق والقبول بين الحاكم والمحكوم والتداول السلمي للسلطة، لتنعم المنطقة بالأمن والاستقرار والازدهار كباقي دول العالم

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)