يتميز تيار الإسلام السياسي في بلدان المشرق العربي بحضور سياسي وانتخابي وأحياناً مسلح، فيما عدا سورية حيث يتعاطى فقط في الشأن الديني والاجتماعي، وهو ممنوع من العمل السياسي تحت طائلة قانون يحكم بالإعدام، منذ الصراع الدامي بين السلطة و“الجماعة” في الثمانينيات.

منذ ذلك التاريخ جرت تطورات واسعة في العالم والمنطقة جعلت الديمقراطية وحقوق الإنسان على رأس أولويات معظم القوى السياسية، ومنها “الإخوان” كتيار عدل عن اللجوء للعنف وطرح برامج جديدة قابلة للمراجعة، تعتمد الحوار في العلاقة بالقوى السياسية الأخرى للبحث عن قواسم مشتركة، وتقبل التعددية في الأديان والمذاهب السياسية، وتسعى للمصالحة وتؤمن بالتدرج والاعتدال، وتعترف بخصوصية كل عصر في فهم النص الشرعي وتغير الحلول مع تغير الظروف والمعطيات، بالاعتماد على اجتهاد لا يتعارض مع الشرع الإسلامي، مع قبول الاستناد إلى جانبه لأفكار وتقاليد محلية وتجارب الشعوب ومعطيات الحضارة الإنسانية المادية والمعنوية.

“الإخوان” السوريون عرضوا رؤيتهم لبناء “دولة حديثة” ودعوا للمشاركة في إغناء الطرح وتسديده، إذ فضلوا الابتعاد عن تسميتها “ديمقراطية”، فسموها "حديثة" و“إسلامية”، مع رفض الدولة “الثيوقراطية” التي تغلف الاستبداد البشري بالمقدس الديني، والدولة “الحديثة” برأيهم: دولة حريات ومواطنة، تعاقدية تمثيلية تعددية تداولية تفصل بين السلطات الثلاث... وهي مواصفات الدولة الديمقراطية المأخوذة من التجربة الغربية ولكن مع البحث لها عن سند من التراث الإسلامي :

فالحكم البرلماني الانتخابي مثلاً هو«أحد وسائل التطبيق العملي المعاصر للشورى»، والتعددية السياسية نتاج طبيعي «لحرية الاعتقاد الديني التي كفلها الإسلام فمن باب أولى أن يكفل الحرية السياسية»... فيما الديمقراطية نهج متكامل لا يمكن الادعاء بأنه كان موجوداً في التراث، فأمام إشكالية أن تطبيق الديمقراطية في مجتمع إسلامي يتم بشكل صحيح بفصل الدين عن الدولة، فضل “الإخوان” إثبات أن الديمقراطية موجودة في التراث بعمومياتها فقط لرفض جوانبها التي يرون أنها تتعارض مع النصوص.

ما يجعل الدولة الديمقراطية مختلفة حسب الرؤية الإخوانية أنها ذات مرجعية إسلامية أي “الحاكمية لله”، التي تجعل المواصفات المذكورة للدولة "الحديثة" مقيده بالشرع ومقاصده، فالنصوص المقدسة هي مصدر التشريع. “الحاكمية لله والسلطة للبشر” تعني أن الله لا يحكم مباشرة، وإنما بشر يحكمون باسمه ويفسرون النصوص، ف "الجماعة" لا تقبل بمؤسسات وسيطة “كهنوت” بين الله والبشر في مسائل العبادات لكنها تقبلها في مسائل الحكم.

الدولة “الحديثة” بهذه المواصفات تقارب النظام الإسلامي الجمهوري في إيران الذي يستعير المفاهيم الديمقراطية الغربية ليقيم نظاماً انتخابياً برلمانياً من جهة، وإلى جانبه نظام إسلامي يقف على رأسه المرشد والمؤسسات التابعة له وخاصة مجلس صيانة الدستور المعين، الذي يمرر أو يمنع القوانين الصادرة عن مجلس الشورى المنتخب بذريعة توافقها أم لا مع المرجعية الإسلامية، فيمارس فيتو على حكم الشعب وممثليه، يحول مجلس الشورى إلى مؤسسة شكلية تقترح مشاريع قوانين دون إقرارها. فالازدواج في السلطة بين "الإسلامية" المعينة و“الجمهورية” المنتخبة راجح لصالح الأولى.

الفارق بين الدولة “الحديثة” الإسلامية الإخوانية المقترحة والدولة الإسلامية الجمهورية الإيرانية، رغم توافقهما في الاستناد إلى مرجعية إسلامية –سنية في الأولى وشيعية في الثانية- أن الدولة الإخوانية المقترحة لم تحدد آليات ومؤسسات لمراجعة القوانين حسب المرجعية الإسلامية. وهو نقص سقط سهواً، أو مقصوداً على أساس أن “الجماعة” تؤمن بالتدرج، فالآليات والمؤسسات يمكن أن تطرح لاحقاً. ربما “الجماعة” نفسها من سيحدد مدى تطابق القوانين مع النصوص، وخاصة أنها تطرح في مشروعها أسلمة القوانين والعلوم والاقتصاد تدريجياً، دون تحديد كيف سيتم ذلك بالنسبة للعلوم، هل ستختار من العلوم ما يتوافق مع المرجعية الإسلامية مثل: أن الأرض مسطحة، مع تكفير العلم الذي يقول بكرويتها؟

عدم تحديد الآليات والمؤسسات يعيد المرجعية في التشريع إلى أصلها الواقعي، الأغلبية المنتخبة الممثلة للشعب فتعمل حسب قناعاتها ووفق المواثيق والعهود المحلية والدولية لحقوق الإنسان والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي صاحبة الحق في التحليل والتحريم و تحديد القيود على الحريات وليس النصوص، وهي المعيار النسبي للحق والصواب إذ لا معيار مطلق، ولا حدود لحكمها سوى صون حقوق الأقلية. فما يحول الدولة الدينية الثيوقراطية التي ترفضها "الجماعة"، إلى دولة مدنية حديثة، ليس فقط رفض حكمها من رجال دين مع قبول حكمها من مدنيين إسلاميين، بل الأهم أن تحكم بالقانون الوضعي أحد أهم أسس الحداثة.

حقق “الإخوان” نقلة للأمام من شعار “دستورنا القرآن والسنة” إلى دستور يعتمد على الشريعة في محاولة للموائمة بين الديمقراطية والإسلام، إلا أن الأسلوب الوسطي المتبع لم يخرجهم من إطار المرجعية المسبقة ولم يدخلهم بشكل حاسم في إطار الدولة الحديثة التي يأملون أن تقوم في سوريا باستعارة انتقائية لمفاهيم غربية.

تبنت “الجماعة” مفاهيم ديمقراطية مع إسنادها بالنصوص بعد أن كانت تعتبرها بضاعة مستوردة مرفوضة، واضطرت لمسايرة التطور الإنساني الذي نبذ فكرة “المستبد العادل”، واقتربت من المجتمع المحلي الذي يسوده مزيج من التمسك بالدين والأمل بالحداثة الغربية، وميزت نفسها عن الجماعات الإرهابية الملاحقة دولياً بتبني مفاهيم ديمقراطية سلمية كأفضل الطرق للوصول للرأي العام، وهو يعني الاعتراف بفشل الدعوة المباشرة للدولة الدينية، وأن الطريق إليها تبدأ بتقبل بعض مفاهيم الديمقراطية الغربية.

رغم التقدم في أفكار “الجماعة” فإن دول المنطقة الاستبدادية تفضل الاستمرار في التخويف منها، لتحشد خلف أنظمتها المعارضين للدولة الدينية والمفضلين للحريات الاجتماعية، بالإضافة لاستخدامها كفزاعة للنظام العالمي لإشعاره بأن الإصلاح السياسي الذي يطالب الأنظمة بإجرائه سيؤدي لمجيء الإسلاميين للسلطة، وهم الأشد عداءاً للغرب حسب ادعائها، –“الجماعة” نفسها صدقت التهويل بقوة الإسلاميين وأرسلت إنذاراً للسلطة لثلاثة أشهر- وهو استخدام يخالف تجارب الانفتاح الديمقراطي في أكثر من بلد التي لم تؤد لاستفراد الإسلاميين بالسلطة باستثناء الجزائر، وهي تجربة لن تتكرر في سوريا حيث تتواجد تعددية واسعة طائفية ومذهبية وإثنية، وتعددية في تيارات الإسلام السياسي نفسه لن تتمكن "الجماعة" من طيها تحت جناحها.

التجربة أثبتت أن التيارات الإسلامية تنمو وتتوسع في ظل الاستبداد، أما في ظل الحريات فيمكن أن تكون طرفاً مشاركاً وجزءاً من اللوحة السياسية العامة، وهو ما أكدته تجربة الخمسينيات السورية وما نتوقع أن يتكرر في مصر وسوريا فيما لو سمح لجميع التيارات الإسلامية بحرية العمل السياسي، إذ لا يصح حرمانها بسبب اعتمادها على الدين، فإبعاد الإسلاميين المعتدلين عن المشاركة السياسية يعني تمكين الإسلاميين المتشددين مستخدمي العنف من التوسع على حسابهم.

أما حزب إسلامي مهيمن على السلطة فهي تجربة لم تنتج حتى الآن سوى حكم استبدادي: السودان، أفغانستان، إيران..باستثناء تركيا، لكنه رغم عدم توقعنا وصول الإسلاميين للسلطة فإن ذلك لو حصل، فأن انقلاب “الجماعة” على مفاهيمها التي تؤكد على الاحتكام لصندوق الاقتراع وتداول السلطة في الاتجاهين الصعود والنزول، أمر وارد بالنسبة لها كما هو وارد بالنسبة لأطراف المعارضة التي لم تحدث قطيعة حاسمة مع الأيديولوجيا الشمولية القومية والماركسية.

إن ضمان أن أي تيار سياسي لن ينقلب على الديمقراطية إذا وصل للسلطة هو بالإضافة لتبني المفاهيم الديمقراطية الليبرالية ككل دون اجتزاء، ممارسة الديمقراطية داخل الحزب كما يريد تطبيقها في المجتمع. ولا نعلم إن كان “للجماعة” نظام داخلي يقر بانتخاب القيادات ويرفض البيعة والتعيين والمركزية، ويوفر حرية التعبير داخله.

إن الخطوات المتخذة من “الجماعة” لتطوير مفاهيمها يجب دفعها للأمام، فقد قطعت نصف الطريق إلى حزب ديمقراطي إسلامي، ويمكن أن يقود للنصف الآخر المشاركة في العملية الديمقراطية القادمة، بالإضافة لدراسة “الجماعة” لأسباب نجاح حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي التركي، الذي صالح بين الإسلام والديمقراطية والعلمانية، فالدولة الحديثة هي دولة علمانية أيضاً، والبشر “أدرى بشؤون دنياهم”.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)