التحفظ عن “توزير” الوزير السابق فؤاد بطرس أو توليه حقيبة الخارجية في الحكومة الجاري تأليفها قد يكون مفهوماً وربما مبرراً حتى من محبّيه ومقدّري مزاياه وتاريخه السياسي الطويل اذا انطلق من كبر سنه “اطال الله في عمره” ومن حاجة الحقيبة المذكورة ليس فقط الى عقل راجح وحكمة متأصلة ووطنية ثابتة، وذلك كله متوافر عنده، بل ايضا الى العمل 24 ساعة والتحرك السريع في الداخل والمنطقة والخارج كلما اقتضت ظروف العمل ذلك. لكنه لا يعود مفهوما على الاطلاق ولا مبررا اذا عزاه اصحابه الى عدم ائتمان صاحبه في كل ما يتعلق بالقرار الدولي رقم 1559 وسلاح المقاومة. وذلك ما عكسته تسريبات واضحة واخرى اقل وضوحا في عدد من وسائل الاعلام الصادرة امس في بيروت وخارجها من جهات معروفة رغم عدم ذكر اسمائها. فالنائب والوزير السابق بطرس الذي اطلقته الحركة الشهابية ايام مؤسسها الرئيس اللواء فؤاد شهاب والذي صار كوكبها ولولبها لاحقا والذي صار بعد انكفائها وانتهائها، مدرسة سياسية وطنية في ذاته لا يستطيع احد ان يزايد على وطنيته وعلى تمسكه بسيادة لبنان واستقلاله وعروبته وعلى اقتناعه بمساوىء الطائفية والمذهبية وبأن اعادة بناء الوطن والدولة يقوم بها ابناؤها جميعا “اي كل الطوائف والمذاهب” وليس فريقا واحدا فقط او فريقان على الاكثر، علما انه قد يكون الاخير في الحركة المذكورة الذي لم يتأثر بسلبياتها او بالاحرى الذي لم يكن جزءا من سلبياتها التي ادت الى انقلاب الناس عليها قبل السياسيين والنواب، وكانت المرة الاولى عام 1968 وكانت الثانية عام 1970. طبعا لا احد ينكر الادوار الوطنية المهمة التي قام بها قسم من الذين لا “يأتمنون” فؤاد بطرس على وزارة الخارجية وعلى المقاومة، مسلحة كانت او منزوعة السلاح وفي مقدمها تحرير ما كانت احتلته اسرائيل من اراضي لبنان عام 1978 وما بعده بعد سنوات من النضال والكفاح، لكن على هؤلاء الا ينكروا ايضا انهم نشأوا في ظروف كانت البلاد فيها تعيش حربا اهلية وتفتقد امنها وسيادتها واستقلالها وحريتها، وكان لغياب هذه دور في نشأتهم فتكيفوا مع هذا الواقع وربما اعتبروه طبيعياً، في حين ان فؤاد بطرس بدأ ممارسته السياسة في ايام لبنان المستقل المتمتع بالحد الادنى من الامن والامان والحرية والديموقراطية ومن العلاقة المتكافئة مع محيطه العربي. ولهذا السبب حاول اثناء استمراره في الممارسة المذكورة بعد نشوب الحروب في لبنان وعليه بدءا من عام 1975 انهاء هذه الحروب وازالة اسبابها، وفشل وأُفشل في الوقت نفسه لأن ما كان يطلبه المسؤولون الخارجيون عن الحرب ومنهم اشقاء في تلك المرحلة هو قبول اللبنانيين تحول بلادهم ساحة لصراعات بلدانهم وانظمتهم وتاليا قبولهم التكيف مع طموحات واحلام وسياسات واستراتيجيات لا تحترم كثيرا لبنان الدولة العربية المستقلة. وللسبب نفسه حظر القادرون الاستعانة بكفاءات فؤاد بطرس ومواهبه بعد انتهاء الحرب عام 1990 رغم اعترافهم اكثر من مرة ببعد نظره وحكمته وبعناده الوطني ايضا. وعندما بدا لهؤلاء القادرين قبل اعوام قليلة انهم عجزوا عن “تركيب” لبنان، هذا اذا كانت لهم رغبة اصلا في ذلك، وان استمرار الانكفاء المعلن للمسيحيين عن الدولة والرفض او الاعتراض الواسع غير المعلن لقسم من المسلمين على الدولة ومديرها الاقليمي، عندما بدا لهم ذلك استعانوا بفؤاد بطرس. وكانت لهم جلسات معه لم تؤد الى نتيجة ليس لأنه “عجّز” كما يقال او لأن مواهبه وكفاياته تراجعت بل لأنه كان “متشددا” اكثر من اللازم على ما قال واحد منهم لشخصية لبنانية مهمة لاحقا ولأنهم “اي القادرون” كانوا يريدون الافادة من وهجه وسمعته الجيدة لتكريس وضع قائم مرفوض وليس لتغييره نحو الافضل سواء لهم او للبنان.

هل يعني ذلك ان المستهدف بـ"الفيتو" مرشحا لحقيبة الخارجية هو فؤاد بطرس شخصيا؟

قد يكون ذلك صحيحا، لكن الاكثر صحة ايضا هو ان الفريق الذي صار بفضل قانون الـ2000 ممثلا حصريا لطائفة رئيسية وكبيرة في لبنان، علما ان احدا لا يستطيع انكار حجمه وشعبيته، لا يستهدف بطرس وحده، فهو يصر على ان يتولى واحد من ابنائها الحقيبة المذكورة، وهذا يعني في وضوح انه لا يأتمن كل الطوائف والمذاهب اللبنانية الاخرى لهذا الموقع المهم في الحكومة العتيدة. ويعني ايضا انه اعطى لنفسه الحق في تصنيف اللبنانيين من جديد بين وطني وغير وطني وربما ما هو اكثر من ذلك وهو غير مقبول وغير جائز وإن كان اصحابه او الذين يستعملونه قاموا بانجازات وطنية مهمة بل بانجاز وطني مهم واحد هو التحرير من اسرائيل. فضلا عن انه يناقض ادبيات هذه الطائفة واركانها من سياسيين وحركات واحزاب ومواقفها المعلنة والسياسات. فهؤلاء قالوا اكثر من مرة علناً وفي جلسات مغلقة ان المقاومة اذا صارت شيعية انتهت مفترضين في ذلك انها كانت وطنية وانها الآن قد تتحول شيعية، وقولهم صحيح، لكن ترجمته خاطئة اذ ان اصرارهم على واحد منها ولهم في الخارجية يعطي الانطباع انها شيعية. اما اقتراحهم انها كانت وطنية فصحيح نظريا لأنها قامت بواجب وطني ولأن الآخرين ايدوها في ذلك وغطوها. الا ان ذلك لا يزيل من الاذهان ما يتكلم فيه كثيرون ومن طوائف ومذاهب عدة ابرزه ان المقاومة لم تكن شيعية اساسا، وانما صارت كذلك بفعل قرارات وظروف معلومة معظمها اقليمي. ونحن بذلك لا نقلل من قيمتها او من حجم انجازها، ولا يزيل ايضا من الاذهان امراً قد لا يزال موضع تساؤل هو : هل ان التمسك بالمقاومة اليوم هو لحماية طائفة وموقعها ودورها في "لبنان الجديد" او لحماية لبنان؟ قد يكون لحماية لبنان، لكن اقناع لبنانيي الطوائف والمذاهب الاخرى بذلك يستلزم جهودا لم تبذل بعد او لم تبذل كفاية بعد.

في اختصار ان الصراحة وحدها تنقذ لبنان الوطن والدولة والكيان لا التكاذب. فالشيعة يحاولون استحقاق دور اكبر في لبنان الجديد. والسنّة يفعلون الشيء نفسه، والمسيحيون كذلك وإن بقليل من الحكمة والعقل لتشرذمهم ولطغيان حساباتهم الشخصية ومصالحهم على كل ما عداها ولعدم اقتناعهم بأن ما ولى لن يعود على الاقل على النحو الذي كان عليه. اما الدروز فانهم بحركتهم المستمرة والمتناقضة، يحاولون تأييد الدور الذي يؤمن لهم مصالحهم طائفة وزعماء (او زعامة؟) من بين كل الادوار المذكورة، وذلك كله يعني ان المشكلة اللبنانية تكمن اساسا في اللبنانيين وفي فقدانهم الانتماء للوطن لمصلحة الانتماء للطائفة والمذهب، وداخل كل منها لزعامات او احزاب، وصارت هذه المشكلة عطلا دائما يجعل اللبنانيين وخصوصا الشباب منهم المنفتح على الحداثة والعصرنة وعلى العالم يتساءلون اذا كانوا سيحصلون على وطن او اذا كان افضل لهم الحصول على "فيزا" للهجرة.

مصادر
النهار (لبنان)