تـــحـــوّل أمـــيـــركي بـــإزاء ســـوريـــا ؟

سليم نصار

فوجىء السفير الاميركي في لبنان جيفري فيلتمان بالتأييد النيابي الذي حصل عليه نبيه بري اثناء فوزه بولاية رابعة لرئاسة مجلس النواب. ويبدو ان السفير كان يتوقع مقاطعة نواب "تيار المستقبل" الذين يشكلون الغالبية المطلقة في البرلمان الجديد (72 نائباً) باعتبار ان حركة "امل" عارضت تنفيذ القرار 1559 بشقيه السوري واللبناني.

ولما استوضح فيلتمان عن مبررات هذا التأييد الذي عبّر داخل البرلمان عن موقف مناقض لما يُعبّر عنه في الخارج، قيل له ان التركيبة المعقدة لسياسة لبنان تسمح بجمع المتناقضات. وأخبره أحد النواب ان حسابات المعركة الانتخابية فرضت على سعد الحريري ووليد جنبلاط دفع ثمن احتضان بهية الحريري في كتلة التنمية والتحرير برئاسة نبيه بري، وثمن مقاومة تحالف عون وارسلان في معركة عاليه. لهذه الاسباب وسواها حصل بري على تأييد اربع كتل نيابية كبرى جعلته يتجاوز الحظر الذي وضعته جبهة المعارضة ضد قرار التمديد للرئيس الماروني اميل لحود.

الادارة الاميركية عبرت بدورها عن استيائها من اعادة انتخاب نبيه بري لأنها تعتبره ممثلا ملتزماً لسياسة استمرار النفوذ السوري في لبنان، مثله مثل أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله. لذلك سارعت الى شن حملة اعلامية واسعة مذكّرة بأن مقاتلي حركة امل هم الذين خطفوا طائرة “تي دبليو ايه”، وبأن حزب الله ولد من رحم أمل.

وكما اختلفت باريس في السابق مع واشنطن حول أساليب معالجة مشكلة العراق، هكذا اختلف جاك شيراك مع ادارة جورج بوش حول اسلوب التغيير في لبنان وطريقة التعاطي مع المسائل الداخلية الحساسة. صحيح ان الدولتين اتفقتا على إنهاء الوجود السوري في لبنان، ولكن الصحيح ايضا ان فرنسا اختلفت مع الولايات المتحدة حول موضوع تجريد حزب الله من السلاح. ولقد ظهر هذا الاختلاف بوضوح في التصريح الذي أدلى به الناطق الرسمي الفرنسي جان ماتييه حيال مسألة نزع سلاح حزب الله إذ قال: «ان هذا الموضوع يجب ان يعالج ضمن الاطار اللبناني وبطريقة تدريجية ملائمة» .وكان بهذا الكلام يستند الى تفاهم نيسان الذي وضعته فرنسا، ثم أقنعت واشنطن بضرورة اعتماده كحل مرحلي يستثني حزب الله من تهمة الارهاب، ويعتبره حزباً محقاً في مناهضة الاحتلال. وعليه ترى باريس انه من الخطأ استباق الأمور وإحراج رئيس الحكومة المكلف فؤاد السنيورة بأن يضمّن البيان الوزاري – في حال نجح في تشكيل الوزارة – نصاً تتعهد الحكومة الجديدة بموجبه تجريد حزب الله من سلاحه. وبما ان فرنسا تعرف أكثر من أي دولة أخرى، واقع لبنان السياسي وخطورة المعضلات القائمة على جمع المتناقضات من أجل صون الوحدة الوطنية، لذلك اقترحت تجيير هذا الموضوع الشائك الى لجنة خاصة تتولى معالجته بحكمة وروية. وهذا ما شدد عليه الوزير السابق البر منصور بعد زيارته للرئيس لحود الاربعاء الماضي، عندما تحدث عن خصوصية النظام البرلماني اللبناني الذي يتميز عن أمثاله في الغرب بأنه لا يعتمد على الأكثرية العددية وإنما على توافق التوازنات.

في أكثر من مناسبة ارتأى العماد ميشال عون حلاً توافقياً تقنع فيه الدولة "حزب الله" بتسليم سلاحه الى الجيش اللبناني، بدلا من السماح للدول الخارجية بأن تتعاطى بموضوع القرار 1559. واستخدم كلمة "تسليم" التي تعني حرية الارادة بدلا من كلمة “نزع” التي تفترض استخدام القوة أثناء التنفيذ. وتؤكد مصادر الحزب أنها لا تمانع في إلحاق مقاتليها بفرق الجيش اللبناني شرط تعهد الدولة بتحرير مزارع شبعا.

وقد حذر السيد حسن نصرالله الولايات المتحدة من مغبة توريط الجيش الاميركي في عملية اقتحام القرى الجنوبية أو الضاحية الجنوبية. ووجه انذاراً الى الرئيس بوش يقول له فيه ان هذه المغامرة ستكلف أميركا ثمناً باهظاً في الأرواح لا يقل عن الثمن الذي دفعته في فيتنام. أما إذا استخدمت الطائرات الحربية الاسرائيلية، فإن آلاف الصواريخ ستوجه نحو مدن العدو وقواعده الحربية.

في زحمة المخاطر المتعلقة بتنفيذ الشق الثاني من القرار 1559، يتعرض فؤاد السنيورة لسلسلة عوائق تتمثل في صعوبة توزيع المناصب على مستحقيها، خصوصاً أن دخول نصف عدد النواب تقريباً الى المجلس (61 نائباً جديداً) خلط أوراق اللعبة البرلمانية ومنع الغالبية المطلقة (126 نائباً) من التحكم بعملية انتقاء الوزراء. والسبب أن زعماء الكتل أو ممثليهم اختاروا لأنفسهم المناصب التي تحقق أهدافهم السياسية. فالعماد عون طالب بوزارة العدل لأنه يريد المشاركة على أساس الثوابت المبينة في برنامجه الاصلاحي. وفي هذا البرنامج ما يدعو الى فتح ملفات السنوات الماضية بهدف اكتشاف الثغر والتجاوزات التي اوصلت الدين الى أربعين مليار دولار. وكي يمنع تفاقم الوضع المالي يطالب عون بضرورة خفض الانفاق من طريق اصلاح القطاع العام “المكدس” بالمحاسيب لاغراض سياسية. وحدث أثناء اجتماعه بسعد الحريري أن حصل التفاهم مع العماد على 95 في المئة من البرنامج المطروح. ولما أطلعه الحريري على الخطوط العريضة لبرنامجه الاصلاحي، سأله عون عن الاسباب التي حالت دون اتفاقهما خلال المعركة الانتخابية، خصوصاً أن البرنامجين متماثلان. وأجابه سعد مبتسما: «لأن كتلتنا بخست في تقديرها لشعبيتك. ولكنها الآن اقتنعت بقوة تيارك» .ولكن هذا الاقتناع لم يقنع الرئيس المكلف فؤاد السنيورة خوفاً من افتعال أزمة سياسية قد تهز صدقية المصرف المركزي وتضعف ثقة المستثمرين. لذلك آثر ان تبقى وزارة العدل في عهدة بهيج طبارة لعل عضو “تيار المستقبل” يطبق خطة انقاذ الاقتصاد التي وضعها السنيورة في الموازنة الجديدة. وكان من الطبيعي ان يؤدي هذا الرفض الى انسحاب عون من المشاركة في الحكم، والاعلان عن محاولة تأسيس “حكومة الظل” تتولى مراقبة الأداء الحكومي وتصحيح مسارها الاقتصادي والسياسي. ويبدو ان الرئيس لحود وعد السنيورة بالتدخل من أجل اقناع العماد عون بضرورة المشاركة في اول حكومة يتم تشكيلها من البرلمان الجديد. ويرى الرئيس ان وجود عون في الحكومة قد يحميها من هجمات جبهة المعارضة الممثلة بسليم الحص ونسيب لحود وعصام فارس وسليمان فرنجية ومخايل الضاهر وفارس بويز وفارس سعيد.

موقف الاعتراض الذي وقفه ائتلاف حركة أمل – حزب الله (35 نائبا) من موضوع التشبث بمنصب وزير الخارجية، يرجع الى اسباب عدة يأتي في مقدمها: أولا، الحرص على اختيار وزير خارجية لا يسمح بالتدخل الدولي في شؤون المقاومة. وكي يطمئن حزب الله الى سلامة اعماله في ظل الضغوطات الخارجية الداعية الى تطبيق القرار 1559، فهو مضطر لأن ينتقي الوزير الذي يعرف سلفاً انه سيدافع عنه في المحافل الدولية.

ثانياً، ان اختيار وزير الخارجية من الطائفة الشيعية يعود الى سياسة تقليدية انتهجها الرئيس نبيه بري منذ 1990. وتقضي هذه السياسة بالعمل على ملء المراكز الشاغرة في ادارات الدولة بعناصر تابعة لـأمل، اي الادارات التي نشأت عن الفراغ الذي حدث بسبب امتناع غالبية الموارنة عن الانخراط في صفوف الجيش والمؤسسات الرسمية لايمانهم بأن الدولة لم تعد دولتهم. وبما ان الطائفة الشيعية استطاعت خلال عقد من الزمن الحصول على ثمانين في المئة من المراكز المتقدمة في الدولة، فإن التنازل عن اي منها قد يفتح الباب امام تنازلات أخرى. وهذا ما سيصطدم به العماد عون اثناء عملية تطهير شركة الكازينو من الفوائض البشرية التي أدخلها نفوذ نبيه بري.

الرئيس المكلف باشر مهمته الاسبوع الماضي بالمراهنة على حصيلة اللقاء بين العماد عون وسعد الحريري. ولكنه تراجع تدريجا عن هذا الخيار عقب اجتماعه بالرئيس اميل لحود. وهذا ما ازعج وليد جنبلاط الذي شعر بان المصالحة الوطنية الشاملة قد تتم على حساب عزله ومقاطعته، خصوصاً بعدما اكتشف لحود ان خطة اسقاطه طُبخت في المختارة بحضور عشرة نواب بينهم ثلاثة من “قرنة شهوان” .والخطة كما عرضها جنبلاط امام حلفائه، تبدأ باستثمار اجواء الحزن والغضب التي خلفتها عملية اغتيال المرحوم رفيق الحريري، ومن ثم تجييش حشد شعبي كبير يحاصر قصر بعبدا مطالباً باستقالة لحود. واقترح ايضاً الدعوة الى اضراب عام يشل البلاد ويستمر الى حين مغادرة الرئيس مثلما فعل بشاره الخوري عام 1952 يوم اسقطته نزوة التمديد.

ولما سئل عن المرحلة التالية في حال رضخ الرئيس للضغط الشعبي، أجاب جنبلاط أن الاتفاق على الرئيس المقبل يجب ان يتم باقصى سرعة خوفاً من حدوث فراغ في رأس الحكم. عندئذ اعترضت نائلة معوض وقالت ان هذا القرار يجب ان يتم بالتشاور والاتفاق مع البطريرك صفير لان الرئيس المخلوع ينتمي الى طائفته والرئيس المفترض كذلك. وأيدها في هذا المسعى بطرس حرب الذي لاحظ ان وليد جنبلاط قد تجاوزه وحسم موضوع اختيار الرئيس البديل.

ولما انتهى الاجتماع ارسل جنبلاط مبعوثا للقاء أمين عامحزب الله ووضعه في صورة التطورات السياسية. ورفض السيد حسن نصرالله الاشتراك في عملية اسقاط الرئيس، مؤكداً ان اميل لحود كان وفياً للمقاومة وداعما لعملياتها المشروعة. ثم عرض المبعوث اقتراحاً آخر يقضي بانتخاب رئيس يحظى بتأييد سوريا، وطلب من السيد حسن نصرالله نقل هذه الرسالة الى دمشق خلال زيارته القريبة. ويبدو ان المسؤولين السوريين تبلغوا فحوى الرسالة، ولكنهم رفضوا فتح الحوار مع جنبلاط لانهم يعتبرونه المحرض الاول على دعوة اخراجهم من لبنان.

هذا الاسبوع فرضت التطورات الاقتصادية والسياسية والامنية التي اظهرتها سوريا على الصعيدين الاقليمي والدولي، بعض التغيير في لهجة الادارة الاميركية نحو دمشق. ذلك ان المصطلحات الايجابية التي وصفت بها كوندوليزا رايس السياسة السورية، تنبىء عن تحول ملحوظ في طريقة التعاطي مع النظام السوري. كل هذا حدث بعدما أعلنت دمشق عن اعتقال 34 عربيا وتفكيك بعض الخلايا الارهابية التابعة لتنظيم “جند الشام للجهاد والتوحيد” .كذلك ذكرت قوات الامن السورية انها قتلت متطرفا جزائريا في اشتباك مسلح على الحدود اللبنانية كانت برفقته سيدة من طرابلس.

ويربط المحللون بين نشاط التنظيم المكتشف حديثا داخل سوريا وجماعة الضنية” التي قتلت ضابطا لبنانيا و17 جنديا في اشتباك مسلح. وكتب بعض المعلقين يفسرون كلام الرئيس لحود عن وصفه أعداء لبنان بان اسرائيل تأتي في الطليعة، ولكن المتطرفين الاسلاميين ليسوا بعيدين عن التهمة. وكان بهذا الكلام يشير الى احتمال توظيف أحمد أبو عدس من جانب جماعات غريبة أرادت زرع الفتنة داخل لبنان وتدمير العلاقات السورية – اللبنانية. وقد انتظرت سوريا صدور التقرير الفني عن عملية اغتيال الحريري، لكي تذْكر بان الجهة التي استهدفت بعض رموز لبنان هي الجهة ذاتها التي تعمل على استهداف أمن سوريا ايضاً.

في ضوء هذه التطورات يسعى الرئيس المكلف تشكيل الحكومة فؤاد السنيورة، الى اختيار ممثلين ممن تصالحوا مع نظامهم مثل التيار العوني والقوات اللبنانية... او ممن لا يريدون معاداة سوريا مثل “حزب الله” و“حركة امل”. وهو في الوقت ذاته يحاول التنسيق مع الرئيس لحود باعتباره الوسيط الوحيد الذي يستطيع ازالة ضغوط المقاطعة السورية عن لبنان.

وقد تعهد الرئيس بتحقيق هذا الدور بواسطة نصري خوري الامين العام للمجلس الاعلى اللبناني – السوري، ولكنه طلب الثمن السياسي لتمثيله بوزيرين، وتعهد بالا تتكرر خطة عزله من قبل وليد جنبلاط أو أي جهة أخرى!

مصادر
النهار (لبنان)