بوش بطة عرجاء... ونحن أيضاً
9\7\2005
حازم صاغية
بكّر الإعلام الأميركي، أو بعضه، في إطلاق وصف "البطة العرجاء" على الرئيس جورج دبليو بوش. فنعت كهذا «ومعناه فقدان التحكم الفعلي بالأمور والسيطرة عليها» لا يظهر عادة إلا في النصف الثاني من الولاية الرئاسية الثانية.
هذه المرة، بدأ التعبير يُستخدم في النصف الأول، والمسألة لا تقف هنا، إذ غالباً ما تذهب المقارنات الى استلهام ريتشارد نيكسون أكثر مما تستلهم غيره من رؤساء سابقين، هو الذي انفجرت في وجهه فضيحة ووترجيت بُعيد ابتداء ولايته الثانية. وأسوأ من ذلك تحذيرات متكاثرة من فيتنام أخرىعلى أرض العراق، شارك فيها المرشح الديمقراطي للرئاسة جون كيري. ولما كان هذا الأخير هو نفسه من أبطال حرب فيتنام، وتالياً من أبطال مناهضتها، جاء مقاله تزكية لهذه الوجهة في التحليل، خصوصاً مع استخدام كلمة مستنقعالتي ترمز في اللغة السياسية الإعلامية للولايات المتحدة إلى تلك الحرب الشهيرة في جنوب شرق آسيا.
بالطبع، كانت معلومات وإشارات وأرقام كثيرة ترمز إلى هذا الميل الجديد. فواشنطن تعلن عن حوار مع بعض أطراف المقاومة العراقية، فيما فصيلان في هذه المقاومة يتوليان نفي ذلك. وكما بات معروفاً فإن التناقضات والاعتراضات على الحرب غدت تتردد في أوساط بعض القادة العسكريين، كما في أوساط بعض قياديي الحزب الجمهوري الحاكم. كذلك شرعت تظهر إلى العلن خلافات في التقديرات المتعلقة بمواجهة الإرهاب، ولم يتردد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في الحديث عن مواجهة تدوم 12 عاماً. وإذ فاق عدد الضحايا الأميركيين الـ1750 قتيلاً، صارت الموضوعات المتكررة في خطابات بوش وتصريحاته مطالبة أبناء شعبه بالصمود والتضحية. وهي لغة ربما كنا نحن العرب أقدر الشعوب على إدراك دلالاتها السيئة.
كذلك تكرر الربط بين المواجهة في بلد الرافدين وبين جريمة 11 سبتمبر. لا بل بالحرب العالمية الثانية أيضاً. وهي إشارات لا تخطئ على ضرورة إيقاظ الذاكرة النضالية لأمة شرعت همتها تفتر وشكوكها تتعاظم، بدليل الارتفاع في نسب المعترضين على الحرب وتحولهم إلى أكثرية. وفيما بدأ رئيس الحكومة البريطاني توني بلير يفصل نفسه عن سياسات بوش، ويركز على أجندة اجتماعية محورها الفقر في أفريقيا والعالم، جاءت الانتخابات الإيرانية تطرح تحدياً خطيراً آخر: فماذا، مثلاً، لو قرر الرئيس المنتخب حديثاً، محمود أحمدي نجاد، استخدام نفوذ بلاده على شيعة العراق والعمل على إدراجهم في مواجهة أخرى مع القوات الأميركية؟ وهذا إذا ما حصل، فإنه لن يعني وحدة المقاومة العراقية (على ما قد يقول بعض المتسرعين في الاستنتاج) بقدر ما يعني أن على الولايات المتحدة مواجهة جبهتين منفصلتين في آن معاً: إحداهما سُنية والأخرى شيعية.
ويذهب من يرى هذا الرأي إلى أن الموضوع النووي الذي يتولاه الحوار مع الأوروبيين لن يفضي إلى نتائج إيجابية. بينما تتكاثر الاتهامات الموجهة إلى نجاد بوصفه متورطاً في احتجاز موظفي السفارة الأميركية في واشنطن عام 1979 وفي اغتيال السياسي والمثقف الكردي الإيراني عبدالرحمن قاسملو في 1989.
لكن كائناً ما كان، الأمر يبقى أن متاعب جورج دبليو بوش وإدارته لا تقتصر على العراق، ولو شكّل العراق وجهها الأكثر سخونة ودرامية. فعلى الجبهة الداخلية تتراكم أيضاً الإخفاقات والتعثرات التي ربما كان أبرزها اثنان: فمن جهة، تمت في العهد الحالي خصخصة أجزاء من نظام الضمان الاجتماعي الذي وضعته إدارة روزفلت الديمقراطية في ثلاثينيات القرن الماضي، في ظل العمل ببرنامج نيو ديل الشهير الذي أنهى الكساد الكبير لعام 1929 وأوائل العقد التالي. ولا تزال أصداء الرفض الشعبي للخصخصة هذه تتردد بقوة، فيما تنجذب إلى التذمر قطاعات فقيرة مستفيدة من الضمان الاجتماعي هي، في الوقت نفسه، موالية سياسياً للحزب الجمهوري، حزب الرئيس.
ومن جهة أخرى، تولت مسألة القتل الرحيم التي ارتبطت باسم المريضة الدماغية تيري شيافو تبيان التهافت الأيديولوجي لليمين المسيحي المتحالف مع الإدارة، كما كشفت عن خطل التدخل الجمهوري في هذا الموضوع. وبالنتيجة، انتهى الأمر إلى معركة سياسية في غاية البشاعة.
أبعد من هذا ما أوجزه خبير استقصاءات الرأي العام جيمس زغبي من أن «أجندة الولاية الثانية لبوش كانت في غاية الغرابة، فهو لا يتحدث عن أي شيء تهتم به أميركا»، فإذا صح أن الرئيس سينهي حياته السياسية مع نهاية ولايته هذه، بقي أن الجمهوريين الذين سيخوضون معركة قاسية وشرسة في العام المقبل لتجديد انتخابهم إلى مجلس الشيوخ والكونجرس، هم الذين سيدفعون الثمن. ومن الطبيعي، بالتالي، أن يتوالى من الآن فصاعداً ظهور الأصوات الاعتراضية داخل الحزب على السياسات القليلة الشعبية المعتمدة في الداخل، أو في العراق.
وهذا كان ليكون حدثاً سعيداً للعراقيين لو أنهم تمكنوا من الاستعداد له، أكان ذلك بخلط تدريجي ومتنامٍ للقوات الأميركية بقوات أوروبية ومتعددة الجنسية تمسك بمرحلة الانتقال إلى السيادة الفعلية الكاملة، أم بالترميم الجدي للوحدة الوطنية العراقية والتقارب الحقيقي بين مكوناتها الثلاثة: العرب الشيعة والعرب السُنة والأكراد.
أما وأن الوضع على غير هذا النحو، فلابد من أن نجد أنفسنا أمام حساب مختلف، ذاك أن المكونات المذكورة هي على النحو الذي نعرفه، وهو السير الحثيث نحو الحرب الأهلية، لا بين السُنة والشيعة فحسب، بل أيضاً في الشمال. ففيما كانت الحملات العسكرية على قدم وساق، وكان مجلس الحوار الوطني يتهم الحكومة بالعمل لـ“تهجير السُنة من بغداد”!، لم يعد هنالك أي مجال للشك حول الطابع الشمولي لتصدع الوحدة الوطنية بعد المداولات الأخيرة في صدد كركوك، أكان منها ما هو مركزي ووطني يخص العلاقة الكردية- الشيعية، أم ما هو محلي يخص العلاقة الكردية- العربية- التركمانية. وفي المقابل، لا ينضح إلا بالوهم والخرافة ذاك التعويل البائس، وسط هذا التذمر، على “وحدة المقاومة” التي تطرد المحتل!
وقصارى القول إن انسحاباً أميركياً حالياً من العراق سيكون كارثة محضة على العراقيين الذين، للأسف، يسرّعون الخطى باتجاه حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، فيما المنطقة كلها ستواجه، في وضع كهذا، حالة انتصارية مخيفة يحتفي بها من هم أمثال أسامة بن لادن والزرقاوي. وكان المرء ليقول أمام خيارات بائسة كهذه إن التقسيم أفضل الحلول، في معزل عن المعنى المرذول في ثقافتنا السياسية الذي تحمله هذه الكلمة. لكننا نعرف أن شيئاً كهذا لن يتم، إذا تم، على الطريقة التشيكوسلوفاكية حين افترقت تشيكيا عن سلوفاكيا، والعكس، بسلاسة لم يرافقها عمل عنفي واحد. وواقع الأمر أن خطوة كهذه، في العراق، لابد من أن تأتي مغمّسة بدم كثير!
ولا يبقى لبلوغ اليأس درجة الكمال إلا أن نقرأ هذه الفقرة التي أوردتها وكالة الصحافة الفرنسية: تشهد واشنطن حرب أرقام بين الحكومة الجمهورية والمعارضة الديمقراطية حول وضع قوات الأمن العراقية ومدى جهوزها للحلول محل القوات المتعددة الجنسية في العراق في نهاية المطاف.
فقد أكد الرئيس الأميركي جورج بوش، قبل أيام، إعداد أكثر من 160 ألف عنصر من قوات الأمن العراقية حتى الآن، لكنه أقرّ بوجود تفاوت في مدى جهوزهم. لكن السيناتور الديمقراطي النافذ جوزيف بيدن أشار، قبل أيام، إلى أننا لم نعُدّ هذا القدر من العناصر، مؤكداً أن التحضير التام لم يشمل أكثر من 2500 عراقي يمكنهم الحلول محل الجنود الأميركيين. وتساءل: «ما دام قد تم إعداد أكثر من 160 ألف جندي، فلماذا لا تزال الولايات المتحدة في حاجة إلى وجود أكثر من 130 ألف جندي في العراق؟».