يذهب الظن الى ان الكيد يقف وراء منع «منتدى الاتاسي للحوار» في دمشق من الانعقاد. أو سبباً تافهاً مشابهاً، من قبيل التحدي واثبات الوجود، كما في المناحرات السوقية.
فالمنتدى ليس سوى جلسات تنعقد في منزل (لا يملك المنتدى مكاناً خاصاً به، من قبيل المقر أو المكتب) لتنظيم النقاش حول المسائل الفكرية والسياسية التي تقع في صلب اهتمامات كل واحد منا اليوم.
«ليس سوى» تلك لا تشفع لأصحابها. ليسوا ضباطاً يتآمرون لتنظيم انقلاب عسكري، ليسوا خلايا حزبية تنمو في الظل وقد تدعو للثورة، ليسوا مجموعة ميليشياوية أو ارهابية على دارج القول الآن. المنتدى «ليس سوى» جلسات نقاش أصحابه ومرتادوه «ليسوا سوى» مثقفين، وهي فئة من البشر اعتادت السلطات الاستخفاف بها واعتبار ما تمارسه «ثرثرة وعلك كلام»، أو هي تدعي هكذا في موقف متعالٍ يناقضه على الدوام فعلها.
ترى، ما مصدر ضيق صدر السلطات، وهي تملك كل تلك السطوة والجبروت، بحفنة من المثقفين؟
يذهب الظن الى ان الغباء، أو ضيق الأفق، يقف وراء منع منتدى الأتاسي للحوار من الانعقاد. أغلقت المنتديات المشابهة التي تكاثرت في فترة من الفترات في دمشق كما في سائر المدن السورية، ولم يبق الا هذا. وقيل وقتها في تفسير استمراره انه متنفس ضد الاحتقان الذي يولده احكام الاغلاق، بل قيل هو طريقه لمراقبة الأفكار خوفاً من بقائها مكتومة، تُتداول سراً ولعلها تتفاعل. فهل زالت تلك الأسباب حتى يُستغنى عن وسيلتها؟
يذهب الظن الى عادة القمع المتأصلة، وهي ردة الفعل الأولى التي تحضر في وجه الاختلاف. فالتخويف، وهو مبتغى القمع، يوفر استمرار الأوضاع على ما هي عليه، أي بالسوء الذي يعرفه الجميع. وللمفارقة، أو للتأكيد، صدرت منذ أيام، في وقت مقارب لحضور رجال الأمن لمنع انعقاد جلسة المنتدى، دراسة عن «أحوال الفقر في سورية» أعدها البرنامج الانمائي للأمم المتحدة، بمشاركة الحكومة السورية واطلاعها. ولعل هذه الأخيرة راضية عن نتيجة الدراسة التي تُظهر ان الفقر يطال ثلث السكان. فهي قد تُخرس الأصوات التي كانت تدعي ان الفقر يطال ضعف هذا الرقم!
ثم يشير التقرير بتهذيب الى ان الفوارق بين الفقراء والأغنياء قد تعمقت في الفترة الماضية، والى ان النمو قد أفاد... الأغنياء. يعرف السوريون هذه الحقيقة العلمية بطريقة مجسّدة قصصاً عن النهب والفساد، تبقى فظيعة مهما تضمنت من مبالغة مفترضة، وقد لا تكون ثمة مبالغة على الاطلاق.
يذهب الظن الى ان سبب الاغلاق أو غايته هو القصاص لتجروء جماعة منتدى الأتاسي على كسر أحد المحرمات، واعتبار الاخوان المسلمين حالة سياسية كسواها، يؤخذ رأيها حين تُستطلع آراء القوى السياسية في كيفية الخروج من الأزمة. ما زال الكاتب علي العبدالله معتقلاً منذ السادس عشر من أيار (مايو) لأن الصدفة أوقعت عليه قراءة الرسالة الجوابية لعلي صدر الدين البيانوني، مرشد الاخوان السوريين. وهو سيبقى معتقلاً أشهراً قبل أن تبدأ محاكمته في الخريف المقبل. بل ان الكيد والغباء والقمع والقصاص تجتمع كلها، فوق واقعة اعتقال الرجل، لتنسج له معاملة تتقصد الاهانة بشكل خاص. لماذا لا تُطبق على علي العبدالله «التوجيهات الجديدة» القاضية بمنع التوقيف لأكثر من خمسة أيام كحد أقصى يُحال بعدها الموقوف الى القضاء أو يُطلق سراحه: ما عدا القضايا المتعلقة بأمن الدولة والسلاح والمخدرات. فهل يقع جرم العبدالله في احداها، أم أن الروتين الاداري الذي عَيّن موعداً متأخراً للمحاكمة، هو بديل التوقيف الاعتباطي المديد، فتتغير المسميات دون الواقع، تماماً كما يستمر التمسك بقانون الطوارئ المعمول به منذ خمس وأربعين عاماً، فلا يعود هذا طوارئ، بل يغدو القاعدة، وسواه بما فيها «التوجيهات»، هو الاستثناء.
وماذا عن النائبين المعتقلين رياض سيف ومأمون الحمصي، والأخير بدأ اضراباً مفتوحاً عن الطعام. ماذا عن الدكتور عارف دليلة، وعن العشرات “كرقم متفائل” من سجناء الرأي. هل يمكن للتوجيهات الجديدة أن تبدّل في أحكامهم القضائية اذ تعدّل مفهوم أمن الدولة اياه؟
فالمتآمر على أمن الدولة في سورية طرفان، هما موضوعياً، حليفان: الأميركان ومن لف لفهم، والتردي غير المبرر للأوضاع الداخلية الذي لم يسبق ان تمكن القمع من التستر عليه في أي مكان من العالم، وكما في سورية بالطبع.
وسيزداد الضغط الأميركي على سورية لاعتصارها بلا حدود، فتستدرج المرونة التي تبديها دمشق حيال المطالب الأميركية مزيداً من الضغوط في منزلق بلا قعر. لذلك، قد يبدو الوقت غير ملائم للمباشرة بالاصلاح، سيما وان الورشة المطلوبة هائلة، والمتضررون منها أركان في البناء القائم، وقوى الاصلاح معطلة بفعل القمع المديد والتبديد، وأيضاً بفعل التوجس المتبادل... هذا على فرض وجود مثل هذه النية وهذا التوجه أصلاً. الا ان حجة المخاطر والضغوط الأميركية الآن تذكّرنا بأن الوقت لم يكن في أي لحظة ملائماً، وأن الزرع المحصود اليوم هو ثمرة سياق كامل.
ذلك هو الاطار الذي يجعل جماعة مثل منتدى الأتاسي ومن يشابههم، حالة لا تطاق. فلا هم أمريكيو الهوى حتى يُنصّبوا أعداء نموذجين يسهل تبرير قمعهم، أو حتى يستفاد منهم كقناة للوساطات المحتملة مع الأميركيين، أو كعنصر من عناصر التسوية الممكنة مع واشنطن.
ولا هم يرتضون بمنطق «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، سيما وانهم يعرفون انه لا معركة ولا منتصرون، ثم انهم يعتقدون ان الاصلاح الداخلي أحد أهم مستلزمات خوض المعركة أو حتى الصمود في ميدان مقدماتها. ولا هم قابلون للافساد حتى يُشترى سكوتهم بمكاسب أو مناصب، وعلى هذا فهم عنيدون. فبالله عليكم، كيف يتدبر الحاكم مثل هؤلاء؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)