أفصحت التطورات الاخيرة في شمال العراق لما يمكن أن يشير الى خلافات جذرية، داخل هيكلية الدولة العراقية التي يجري العمل على بنائها، والتي تتسابق أطراف المعادلة العراقية على تأكيد رغبتها بأن يكون البناء سليماً، ومتيناً، ويستطيع أن يعيد الامور الى ما كانت عليه، من حيث المتانة والقوة. ففي كردستان العراق، انتخب مسعود البرزاني رئيساً للاقليم بعدما وافق برلمانه على قانون جديد ينظم شؤون الرئاسة للاقليم، الامر الذي أنهى الخلاف بين الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستاني.

ومن أبرز مفاصل القانون الجديد، انه يعطي المواطنين الاكراد في الاقليم حق انتخاب رئيس، تمتد ولايته فترة أربع سنوات، مع إمكانية التجديد له لولاية ثانية فقط، ويمنحه حق إدارة مختلف شؤون الاقليم، من جميع النواحي التنفيذية، بما يوازي رئيس دولة. ومن الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس إصدار العفو الخاص عن المحكومين، والمصادقة على أحكام الاعدام، وتخفيضها الى السجن المؤبد. ويملك الرئيس صلاحيات إقالة مجلس الوزراء، أو أي من الوزراء، وتعيين الحكام، رئيس وأعضاء الادعاء العام، وغيرهم من رجالات القضاء، والحكم الاداري. وقد أصبح القانون نافذاً، وتم تطبيقه بعد انتخاب البرزاني ومباشرة مهامه فعليا كرئيس، بعد أن أدى اليمين الدستورية.

إقرار هذا القانون فتح الباب واسعا أمام تخوفات وهواجس كبيرة، تتعلق بالخشية من أن يكون مشروع الانتخابات الرئاسية للأقاليم بداية لتقسيم العراق، وهو الهاجس الذي طالما حذرت بعض التيارات العراقية، السياسية والشعبية والحزبية، من مخاطره.

وعشية استلام البرزاني رئاسة <<اقليم كردستان>> لأربع سنوات، بات واضحاً أن خطر بلقنة العراق ازداد في ظل غياب أي استراتيجية واضحة للانقاذ، ولا سيما بعد عودة مسألة كركوك للتداول بقوة من جديد كعنصر مؤثر في التحالف الشيعي الكردي الذي بات مهزوزاً بفعل الشحن العنصري القائم داخل مكونات المجتمع <<الكركوكي>> من عرب وتركمان وكلدو أشور وأكراد، وبما يمكن وصفها بالحرب الحقيقية التي لم يستعمل فيها السلاح إلا بشكل متفرق من هنا وهناك. غير أن ما يحصل يمكن وصفه فعلاً بأنه مشوار الخطوة خطوة نحو البلقنة، لا سيما مع عودة الحديث عن تقسيم العراق الى ثلاث دويلات: شيعية في الجنوب، دولتين كرديتين في الشمال (في السليمانية وأربيل)، ودويلة واحدة سنية في بغداد كمركز للحكومة الفيدرالية كما أقرها دافيد فيليب المستشار السابق في البيت الابيض، والذي يعمل حالياً في مجلس السياسة الخارجية الاميركية، على أن تتولى كل دويلة توفير الامن والنظام والاقتصاد ضمن حدودها، وتكون بغداد مسؤولة عن السياسة الخارجية والتنسيق العسكري، لذلك لم يكن غريباً الحديث عن عجز حكومة الجعفري عن السيطرة على العراق، وقيام القيادة الاميركية في العراق في محاورة قادة المقاومة بعدما أبدت هذه القيادة تذمراً من قيام البشمركة الكردية باختطاف أكثر من 300 شخص من أبناء العشائر العربية والتركمانية من كركوك، في محاولة يائسة لدفع الجماعات غير الكردية الى الخروج من كركوك، ومغادرتها، لا سيما بعد تأكيد البرزاني من جديد لا <<كردية>> كركوك، وأنه لا مجال للتنازل عنها مهما كلف الامر.

وقد بدا واضحاً من خلال التوجهات الكردية أن الطالباني والبرزاني يتبادلان الادوار بشأن كركوك، الاول يطالب بضمها سلمياً، أما الثاني فيطالب بضمها عنوة. وبين هذا وذاك تبقى كركوك مركز الصراع وبؤرة التوتر التي من شأنها أن تشعل فتيل الحرب بين مكونات الشعب العراقي.

في ضوء هذه الوقائع دخلت وزارة الداخلية العراقية في خط المواجهة مع الاكراد حين أصدرت أمراً في الفترة الاخيرة بطرد ثلاثة آلاف ضابط وشرطي كردي من مديرية شرطة محافظة كركوك، بعد أن تم تعيين وتنسيب هؤلاء من قبل وزارة الداخلية في <<إقليم كردستان>> الى مديرية شرطة كركوك دون الرجوع الى حكومة بغداد؟ يضاف الى ذلك أن الاحداث الجارية بشكل يومي في كركوك من تهجير وتوطين ونقل وتعيين... الخ، ألقت بظلالها على سكون البركان التركي الذي ثار فجأة نتيجة التصرفات الكردية حين دخلت أنقرة بقوة على خط الوضع الراهن في <<إقليم كردستان>> عموماً وكركوك خصوصاً، حيث زوّد جهاز المخابرات التركي (أميد) الاميركيين بوثائق كاملة من أعداد وأسماء التركمان والعرب المعتقلين لدى قوات البشمركة الكردية في سجون اربيل والسليمانية، ما دفع الخارجية الاميركية للتعبير عن قلقها حيال تقارير أشارت الى أن الاكراد في شمال العراق يخطفون مواطنين من العرب والتركمان.

«وكأن القوات الاميركية لا تحتل العراق، ولا تشجع الاكراد على ممارستهم». فقال الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية في واشنطن شون ماكورماك في تصريح صحافي “الاربعاء 15 حزيران”: <<لدينا معلومات خطيرة وموثوقة حول أعمال مخالفة للقانون، واعتقال واحتجاز مواطنين في المناطق الشمالية من العراق>>.
وأوضح: <<هذه المعلومات والتقارير مبعث قلق جدي لدينا. وقد أثرناها بالطريقة المناسبة مع السلطات المتورطة، أو التي يعتقد أنها متورطة بهذه الاعمال>>.

وجاء تعليق ماكور ماك عقب تقرير نشرته صحيفة <<واشنطن بوست>> نقلا عن برقية تركية صادرة من أنقرة وردت الى وزارة الخارجية الاميركية، ذكرت <<أن الاعتقالات كانت ضمن إطار مبادرة شاملة ومنسقة من قبل الاحزاب الكردية لممارسة السلطة في كركوك بطريقة استفزازية>>.
وأكدت الصحيفة نقلاً عن مدير شرطة كركوك وبعض السجناء الذين أطلقوا منذ فترة قريبة أن مئات الاشخاص المعتقلين منذ أشهر اختفوا وتعرض بعضهم للتعذيب. هذه المعلومات تشير الى أن واشنطن تعيش اليوم بين نارين، تقسيم العراق الى فدراليات، وهذا رأي تيار المحافظين الجدد المتشددين، أو إبقاء العراق موحداً من أجل تحويله الى أكبر قاعدة أميركية في المنطقة للانقضاض على الاهداف الاخرى والمتمثلة بحكومات مناوئة للولايات المتحدة، وهذا الرأي يمثل التيار المعتدل ضمن دوائر واشنطن؟

مصادر
السفير (لبنان)